السبت، مايو 15، 2010

المجزوءة الرابعة: إشكالية الأخلاق

المجزوءة الرابعة: الأخلاق
* مدخل عام:
لقد اهتم الفكر الفلسفي بسؤال الأخلاق، في إطار تحديد القيم العليا الموجهة للفعل البشري، ولتحديد الغايات من هذا الفعل، من منطلق أن سلوك الإنسان مشروط بمثل أخلاقية تنظم علاقته بالغير. هذه المثل مكنت الإنسان من التحرر من غرائزه وأهوائه(كالعنف...). وقد عمل المجتمع على ترسيخ هذه المثل والقيم، بل وجعلها ملزمة للأفراد كحتمية سلوكية. هكذا يمكن أن نتطرق لمفهوم الأخلاق في ارتباطاته الإشكالية بالفرد والمجتمع، وفي ارتباطاته الدلالية بمجموعة من المفاهيم المجاورة له، كمفهوم الواجب والسعادة والحرية، متسائلين: كيف يمكن للتقيد بالواجبات الأخلاقية أن يكون سبيلا لتحقيق سعادة الإنسان وحريته؟

الوحدة الأولى : مفهوم الواجب
* تقديم:
الواجب هو الأمر الأخلاقي الملزم لكل الناس، إنه ما ينبغي أن يكون أو ما يجب القيام به. لهذا يرتبط مفهوم "الواجب" بفكرة الإكراه، وقد يكون استجابة لنداء العقل.
فكيف يتحدد الواجب هل باعتباره نتيجة إرادة حرة فاعلة، أم أنه إكراه وضرورة صادرة عن قوى خارجية؟
وما علاقته بالوعي الأخلاقي؟ وهل ينبع الوعي الأخلاقي من الضمير الذاتي للفرد، أم أنه صنيعة ضمير جمعي يعيد المجتمع إنتاجه باستمرار؟
الإشكال الأول: الواجب والإكراه.
I. الإطار الإشكالي:
كيف يتحدد الواجب؟ هل باعتباره اختيارا خالصا، والتزاما ذاتيا، يصدر عن إرادة حرة، أم أنه إكراه وإلزام خارجي مفروض على الفرد؟
II. التصورات الفلسفية.
1 - التصور الأخلاقي- المثالي: نموذج كانط.
لقد اتسمت أغلب التأملات الفلسفية في إشكالية الأخلاق بالطابع المثالي، إذ حاولت بناء أنساق تصورية شمولية ونقدية متعالية على مجرد الوصف الوضعي لما هو قائم، أو حتى على بلورة حلول تقنية لمشكلات اجتماعية جزئية. وقد بلغ هذا التوجه ذروته مع الفيلسوف الألماني إمنويل كانط(القرن 18) فشكلت فلسفته الأخلاقية منذ ذلك الحين مرجعية لا يمكن تفاديها، حتى في عصرنا الحالي، عندما نكون بصدد التفكير في موضوع القيم الأخلاقية.
يؤكد كانط أن الواجب نداء عقلي كوني نابع من ذات إنسانية تتمتع بالحرية والاستقلال الذاتي، أي أن كل شخص، لكي ينسجم مع ماهيته العاقلة، لا بد أن يستجيب لهذا النداء، ويحترم القانون العقلي المطلق الذي يفرضه، ويلتزم عن إرادة حرة وخيرة، بالعمل على تطابق أفعاله مع مقتضيات هذا القانون، حتى وإن تعارض مع ميوله الطبيعية، ومصالحه النفعية.
إن الواجب الأخلاقي غاية في ذاته بعيدا عن المنفعة الذاتية، لهذا يمكن أن يكون الإكراه الذي يفرضه العقل على الشخص نابع من إرادته الخاصة بناء على الإقتناع، ومنه يكون الإلتزام ذاتيا، أي بمثابة "إكراه حر"، فالإرادة الخيرة الحرة تعرف أن عليها أن تحترم الواجبات التي هي أوامر ذات صبغة كونية. ولهذه الأوامر، كما حددها كانت في كتابه"تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق"، صيغ ثلاث:
- تصرف بحيث تجعل من المسلمة التي تحكم فعلك قانونا لنفسك ولسائر الناس.
- تصرف دائما وفق الطريقة التي تجعلك تعتبر الإنسانية، في شخصك وفي غيرك، غاية في ذاتها لا وسيلة بأي حال من الأحوال.
- تصرف معتبرا إرادتك مشرعا لتشريع كوني.

2 - التصور الاجتماعي: نموذج إميل دوركايم.
يؤكد دوركايم أن الواجب يتسم بطابع إلزامي، كما أنه محط رغبة. فلا وجود لفعل يقوم به الإنسان لأنه واجب فحسب، وإنما هناك سبب آخر وهو النتائج المترتبة عن ذلك الفعل، و التي تشجع عليه، مثل الإحساس بالرضا و اللذة و الاستحسان. ومن هنا يمكن موقعة التصور الدوركايمي للواجب، بين صفة الإلزامية وصفة المرغوبية. حيث يقول:" لم يكن هناك فعل أخلاقي تم القيام به بشكل خالص، على أنه واجب، بل من الضروري أيضا أن يظهر هذا الفعل، على أنه جيد ومستحسن، بشكل من الأشكال". أي أنه في كل فعل أخلاقي يتداخل الواجب الملزم و الخير و الرغبة.

* الإشكال الثاني: الوعي الأخلاقي بين الفرد وسلطة المجتمع.
I. الإطار الإشكالي:
ما طبيعة العلاقة بين الواجب والوعي الأخلاقي؟ وما هو مصدر هذا الأخير؟ أهو ملكة ذاتية قبلية، أم أنه مقولة اجتماعية مشروطة بعملية التنشئة؟ أي هل الضمير الأخلاقي كيان معياري مضمر في الذات الإنسانية، أم أنه منظومة قيمية بلورها المجتمع؟
II. التصورات الفلسفية.
1- التصور العقلي: كانط (أنظر المحور الأول)
2- الموقف الموضوعي:
أ- سيغموند فرويد:
تفترض نظرية التحليل النفسي التي أسسها فرويد، تكون الحياة النفسية للفرد من ثلاثة مكونات دينامية ( الهو، الأنا، الأنا الأعلى)، وتفترض أن الأنا الأعلى هو عبارة عن بنية نفسية تشكلت عبر تقمص الطفل لشخصية الوالدين، من خلال الاستدماج اللاشعوري لأوامرهم ونواهيهم، الممثلة لمجمل القيم الأخلاقية والعادات و التقاليد السائدة في المجتمع. فتصبح هذه البنية النفسية بمثابة المضير الأخلاقي الذي يمارس الرقابة الذاتية على سلوكات الفرد. ومن ثمة فالوعي الأخلاقي بالنسبة لنظرية التحليل النفسي لا يرتبط بإرادة وحرية الفرد، وإنما هو جزء من إكراهات العالم الخارجي، وقد استدمجت داخليا.
ب- إميل دوركايم:
يمارس المجتمع نوعا من القهر والإلزام على أفراده، إذ أنه يحدد لهم القيم والمثل التي يجب اتباعها، عبر آليات التنشئة الاجتماعية. لذلك يؤكد دوركايم أن الواجب هو نتيجة وعي جمعي أو"ضمير جمعي" يعيد المجتمع إنتاجه. ومن ثمة فالوعي الأخلاقي هو ترديد لصوت المجتمع وتحقيق لغاياته في التلاحم والاستمرار. يقول دوركايم:"لم ينتج ضميرنا الأخلاقي إلا عن المجتمع ولا يعبر إلا عنه".
3- الموقف الطبيعي: جان جاك روسو
يؤكد روسو على أن الضمير الأخلاقي فطري في الإنسان. سواء تعلق الأمر بتقييم الأشياء أو الحكم على الأشخاص، فالوعي الأخلاقي متأصل في الطبيعة الإنسانية الخيرة، أي أن الإنسان يتجه بشكل فطري نحو الخير وينفر من الشر. وبما أنه كائن اجتماعي، فهو يكرس هذا الميل الأخلاقي في علاقته بذاته وبالغير، إن هو أنصت لصوت فطرته التلقائية. ومن ثمة فالوعي الأخلاقي لا ينتج عن مصدر خارجي، كالعادات والتقاليد الاجتماعية، التي من شأنه أن تفسد الميول الخيرة في فطرة الإنسان، وإنما هو غريزة. لكن ألا يمكن اعتبار الفطرة حتمية غريزية، وبالتالي نوعا من الإلزام؟
* تركيب:
سواء أتصورنا الوعي الأخلاقي، والواجب الذي يقره هذا الوعي، صادرا عن العقل أو عن المجتمع أو عن الطبيعة، فإنه يتسم في جميع الحالات بتداخل صفتي الإلزام والالتزام فيه.






الوحدة الثانية: مفهوم السعادة
* تقديم:
تتحدد السعادة باعتبارها حالة من الرضا والارتياح التامين، الناتجين عن الإشباع الكلي لمجموع مطالب الذات، وهو إشباع يتسم بالاستمرار. لكن أسباب هذا الارتياح تتعدد وتختلف من فرد إلى آخر. فهي الصحة والثروة والسلطة والمعرفة...
فما هي تمثلات السعادة وتصوراتها؟ وهل يمكن أن نجد لها دلالة موحدة لدى جميع الفلاسفة؟ وما هي سبل بلوغها؟ وما علاقة السعادة بالواجب الأخلاقي؟ هل يمكن تحقيق السعادة في ظل الإلزامات التي يفرضها هذا الواجب؟

* الإشكال الأول: تصورات السعادة وسبل تحقيقها.

I. الإطار الإشكالي:
إذا كان العامة يختلفون في تمثلهم لمعنى "السعادة" ولطرق تحقيقها، حيث يهيمن على هذه التمثلات المعنى المادي الحسي، الذي يربط السعادة بتحقيق المتعة الجسدية، فإن الفلاسفة يختلفون كذلك في تحديدهم لدلالة المفهوم، فهي ترتبط في تصوراتهم بالفضائل الأخلاقية تارة و بالتأمل النظري و التذوق الجمالي تارة أخرى، وهي تتصور أحيانا كشأن فردي وأحيانا أخرى كأفق جماعي، بل يتصورها البعض باعتبارها مطلبا مستحيلا. فإلى أي حد يمكن استنباط دلالة فلسفية موحدة لمفهوم السعادة؟ وإذا كان تحقيقها ممكنا، فأي السبل جدير بأن يتيح لنا بلوغها؟
II. التصورات الفلسفية.
1- الفلسفة اليونانية القديمة
أ- نموذج أرسطو.
يحدد أرسطو، شأنه شأن أفلاطون، السعادة Eudaimonia باعتبارها الكلمة الدالة على خير نمط من الحياة، وتتمثل هذه الحياة الخيرة، بشكل أساسي في "الفضيلة". وفضيلة كل كائن تتمثل في أداءه للوظيفة التي جعل من أجلها، وأهلته طبيعته لها. ومن ثمة ففضيلة الإنسان هي قيادة نفسه قيادة عاقلة ، وفق قواعد عقلية وأخلاقية صائبة، يستطيع عبرها التحكم في شهواته وتطويعها. ويتوصل الفرد إلى هذه القواعد، إما بجهده الخاص، وهذا أمر نادر، أو يستفيدها من غيره، مثل المدرس أو مشرع القوانين، عبر عملية تدرب وتربية طويلة الأمد، إلى أن يصير بمستطاعه أن يأتي كل أفعاله مراعية لقاعدة"الوسط العادل" أو "الوسط الذهبي"، وبالتالي إيجاد المتعة في الشجاعة، باعتبارها وسطا عادلا بين التهور والجبن، والحكمة التي هي وسط عادل بين الإفراط والتفريط، والعدل الذي هو وسط عادل بين الجور والتسيب. وهناك دلالة للسط العادل جامعة لكل هذه المعني وهي أن يتصرف كل كائن وكل فرد وفق طبيعته وماهيته التي تؤهله لبلوغ الكمال الذي يلائم هذه الطبيعة.
إلا أن هذه الحياة الخيرة المسترشدة بقاعدة الوسط العادل، كقاعدة عقلية وفضيلة أخلاقية، لا يمكن أن يكسبها الفرد إلا داخل حياة التعاون والتكامل والمشاركة السياسية، في إطار الدولة. فالسعادة، إذن، ليست شأنا للفرد وحده، بل هي أفق سياسي للمدينة.
ب- نموذج أبيقورEpicure(القرن الثالث قبل الميلاد).
ينطلق أبيقور من البحث عن علاقة اللذة بتحقيق السعادة، وما إذا كانت كل اللذات تحق السعادة.
فيخلص إلى أن اللذة هي مبدأ وغاية الحياة السعيدة، ومنه فإن إشباع اللذات وتجنب الآلام يجعلنا سعداء، لكن هذا لا يعني أن كل اللذات تحقق لنا السعادة، بل اللذات الطبيعية والضرورية فحسب، لا اللذات التافهة التي يمكن أن يعقبها ألم. بل إن هناك من الآلام ما يكون وراء الصبر عليها خير عظيم. وهنا تؤكد الأبيقورية على فضيلة "القناعة"، فالمتعة التي نجدها في تناول الطعام البسيط ليست أقل من تلك التي نجدها في المآدب الفاخرة، لأنهما معا يزيلان حاجة الجوع. كما أن القناعة تجعل الإنسان أكثر قدرة على التمتع عندما تقدم له حياة أفضل:"تجعلنا عند وجودنا أمام ما لذ وطاب قادرين على التمتع بذلك حق التمتع".
2- في الفلسفة الحديثة
أ- نموذج جان جاك روسو.
إن انتقال الإنسان من حالة الطبيعة البسيطة في حاجياتها، إلى حياة الإجتماع والمدنية، مع مختلف التحولات التي صاحبت ذلك الانتقال، أدت إلى فقدان تلك البساطة، لتعدد وتنوع الحاجيات الجديدة والكماليات المتعددة و المتغيرة باستمرار، مما جعل الإنسان في رحلة أبدية وعبثية وراء بلوغ السعادة دون أن يستطيع بلوغها حقا. الأمر الذي أصبح معه الإنسان يحيا في شقاء دائم.
ب- نموذج كانط.
تتلخص كلمة "سعادة" لدى عامة الناس، حسب كانط، في إشباع حاجاتهم وميولاتهم، ومن ثمة تحقيق قدر أعظم من الإحساس بالهناء في اللحظة الراهنة والمستقبلة. إلا أن فكرة السعادة هذه، قد بلغت من عدم التحدد مبلغا جعل كل إنسان، على الرغم من رغبته في أن يكون سعيدا، يعجز عن التعبير عما يشتهيه وما يريده على الحقيقة بكلمات محددة ومعان واضحة. والسبب في ذلك أن جميع العناصر التي تتألف منها فكرة السعادة، عناصر تجريبية، وأن الميولات الطبيعية التي تقف وراء تمثل فكرة السعادة تتميز بعدم الثبات. فلكي نكون سعداء:
هل نريد تحصيل الثروة؟ لكن الثروة تجر علينا الحسد والأحقاد، وهي شر.
هل نريد المعرفة والبصيرة؟ لكن البصيرة يمكن أن تفتح أعيننا على شرور لم نكن ندركها، فيصبح الشقاء الناتج عن هذا الإدراك أثقل وطأة.
هل نريد العمر الطويل؟ لكن ليس هناك من ضمانة لأن تكون تلك السنوات الزائدة في العمر سنوات خير وعافية...
ومن هنا استحالة وجود مبدأ عقلي يقيني ومطلق، يمكن اتباعه، لتحقيق هذه الفكرة الغامضة عن السعادة، لذلك فهي ليست إلا مثال لملكة التخيل، لا مبدأ من مبادئ العقل. لذلك يعتبر كانط أن فكرة السعادة الشخصية هذه، هي أولى المبادئ بالاستنكار والنبذ، لأن الإنسان عندما يمثل أمام أوامر الواجب التي يصدرها العقل، يحس في نفسه، مقاومة شديدة من قبل ميولاته وحاجاته التي يتخيل أن إشباعها سبيل للسعادة. ومن ثمة لا يتوانى في مغالطة قوانين الواجب، والتشكيك في صلاحيتها، ومحاولة جعلها، ما أمكن، ملائمة لرغباته وميولاته، وبالتالي إفسادها من أساسها، والابتعاد إذن عن الخير الأسمى المطلق، الذي من شأنه أن يتحقق إذا ما استجابت الإرادة الخيرة والحرة لنداء العقل، وواجهت بمبادئه المسلمات التي تقوم على الحاجة والميول.
يخلص كانط في الأخير، إلى أن كون المرء سعيدا أمر مختلف، بل نقيض أحيانا، لكون خيرا. لذلك أحرى بنا أن نبحث عن الخير كغاية لذاته لا عن السعادة الشخصية.

* الإشكال الثاني: السعادة والواجب.
I. الإطار الإشكالي:
هل العلاقة بين السعادة والواجب، علاقة تعارض أم انسجام؟ بمعنى هل يمكن أن تتحقق السعادة في ظل احترام الواجب، أم أن هذا الأخير يشكل عائقا أمامها؟
وإذا كانت هناك علاقة إيجابية بين السعادة والواجب، فهل السعادة واجب تجاه الذات، أم أنها واجب نحو الغير؟
II. التصورات الفلسفية.
1- علاقة السعادة بالواجب:
أ- تصور الفلسفة الرواقية:(نموذج إبيكتيت Epectète)
يؤكد إبيكتيت، وهو من أهم الفلاسفة الرواقيين، أن سعادة الإنسان هي العيش وفق الطبيعة والعقل. فقانون الطبيعة يملي عليه حب البقاء، وهو يهديه إلى ما يناسبه وما لا يوافقه. ففي الإنسجام مع الإرادة الكلية والقانون الطبيعي، إدراك للسعادة، لأن هناك أشياء يتوقف بلوغها على إرادة الإنسان، كما أن هناك أشياء أخرى تعجز عنها الإرادة. فإذا تحرك الإنسان في دائرة الأشياء الخاضعة لإرادته حقق السعادة، وإذا تجاوزها شعر بالسعادة. فالموت ليس شرا أو ألما، ولكن الشر والألم لا يحملان معنى في ذاتهما وإنما في الآراء التي نكونها عنهما. بل إن الموت في ذاته مطابق للقانون الطبيعي وللإرادة الكلية التي تحكم العالم. فالسعادة إذن تتحقق بالخضوع لحدود إرادتنا الفردية، في انسجامه مع الإرادة الكلية المحايثة للطبيعة.
ب- تصور كانط
(أنظر المحور الأول).
2- السعادة كواجب، بين الأنانية والغيرية.
أ- تصور ألانAlain (Emile Chartier) .
تتحدد السعادة حسب آلان كواجب نحو الذات بصورة أساسية، وهي سعادة نصنعها بإرادتنا ونناضل من أجلها، وبعد ذلك يمكن أن يفيض إشعاعها على الآخرين. يقول آلان:"لا يكون بإمكان الإنسان أن يسعد غيره إلا إذا منحه السعادة التي حصل عليها". فالسعادة إذن واجب تجاه الذات أولا، من خلال الإرادة، وهي واجب تجاه الغير ثانيا من خلال العطاء. بل يجب على الشخص أن لا يتحدث عن بؤسه للآخرين، بل يجب أن يعمل على إسعادهم، ولو برسم ابتسامة على محاياه.
ب- تصور برتراند راسل.
تتحدد السعادة ، لدى الفيلسوف الإنجليزي راسل، باعتبارها واجبا نحو الغير أولا. فالسعادة الأصلية تتمثل في الاهتمام الودي بالآخرين ومحبتهم، دون أن يعني ذلك التضحية التامة بسعادة الذات، فإسعاد الذات الغير يكون تلقائيا ومرغوبا فيه، لأنه مصدر لسعادة الذات أيضا. ومن هنا، فالسعادة واجب اتجاه الغير بقدر ما هي واجب تجاه الذات، إذ يكفي التقرب من الآخرين و تفهمهم والتعاطف معهم، لإسعادهم وإسعاد الذات نتيجة لذلك. فالسعادة غيرية في جوهرها.


الوحدة الثالثة: مفهوم الحرية
* تقديم:
لا تستطيع أي مقاربة فلسفية، أو حتى علمية، للبعد العملي في الوجود الإنساني، أن تتجاوز مفهوم الحرية، باعتباره مفهوما وصفيا وقيميا في نفس الآن. فهو يدل، من جهة، علي ماهية الفعل البشري، من حيث هو فعل حر، يحركه مبدآ الإرادة والقدرة على الخلق والإبداع. وقد يدل من جهة أخرى على غاية الفعل البشري، من حيث هو فعل تحرري، يسعى بشكل دائم صوب الانعتاق من مختلف أشكال الحتميات(البيولوجية، الاجتماعية، الاقتصادية...) التي تحيط به وتقيده. ومن ثمة تغدو الحرية خاصية للفعل البشري وقيمة عليا موجهة له.

* الإشكال الأول: الحرية والحتمية
I. الإطار الإشكالي:
لا يستقيم الحديث عن مفهوم الحرية إلا بالحديث عن مفهوم الحتمية كنقيض له. فقد نشأ هذا الأخير في سياق النضال الذي خاضته العلوم الحديثة دفاعا عن نظرة جديدة للعالم، نظرة تنبذ تفسير الظواهر بالاعتماد على مبادئ الصدفة والعشوائية وغياب نظام موضوعي محايث للطبيعة، كما تنبذ الاعتقاد في خضوع العالم لإرادة قوى غيبية مفارقة وخفية، وفي مقابل هذا أسست العلوم الحديثة تصورا يضفي المعقولية على العالم من خلال الانطلاق من افتراض أساسي مفاده أن الطبيعة نسق حتمي من العلاقات السببية، إذ كل ظاهرة تحكمها شروط مادية محددة يمكن ضبطها بدقة، ومن ثمة يمكن التنبؤ بحالتها المستقبلة. وفي القرن التاسع عشر نشأت المحاولات الأولى لتعدية هذا التصور من مجال الظاهرة الطبيعية إلى مجال الظاهرة الإنسانية، فأضحى الإنسان خاضعا هو الآخر لحتميات طبيعية ونفسية واجتماعية... تحكم وجوده. إلا أن الفكر الفلسفي حاول ومازال التصدي لهذه المقاربة من خلال الدفاع عن الحرية كماهية للكائن البشري، والإرادة كمبدأ لأفعاله.
فما الذي يحدد الفعل الإنساني إذن؟ أهو مبدأ الإرادة الحرة أم مبدأ الحتمية؟ وهل هما محددان متعارضان، أم أن الوعي بالحتمية هو أساس الحرية؟
II. التصورات الفلسفية:
1- في الفلسفة العربية الإسلامية.
أ‌- تصور ابن باجة.
في إطار تناوله لمسألة الجبر والاختيار، التي شكلت إطارا إشكاليا للجدالات الكلامية والفلسفية عند المسلمين، ميز أبو بكر محمد ابن باجة، في أفعال الإنسان بين تلك التي يختارها عن إرادة واعية (الإرادة عن روية)، وهو يسميها أفعالا إنسانية لأنها خاضعة للفكر، يحركها ما يوجد في النفس الناطقة/العاقلة من رأي واعتقاد، ويسبقها تدبير وترتيب، وبين الأفعال البهيمية التي يتقدمها الانفعال النفساني فقط، بمعنى أنها مجرد ردود أفعال آلية، لاإرادية، خالية من كل تدبير مسبق. فكسر شخص لعود خدشه لمجرد أنه خدشه، يعتبر فعلا بهيميا، أما كسره إياه لئلا يخدش غيره، فذلك فعل إنساني.
ب‌- تصور ابن رشد.
جاء الإسهام الفلسفي الرشدي(ق12م) كتجاوز تركيبي للسجال الذي كان محتدما بين الفرق الكلامية في المشرق العربي، بين قائل بحرية الفعل الإنساني شأن فرقة المعتزلة، وقائل بأن الإنسان مجبر في أفعاله، إذ هي مقدرة بشكل مطلق من الله، شأن الجبرية والأشاعرة. وفي المقابل أقر ابن رشد بحرية الإنسان في إتيان أفعاله، خيرها وشرها. إلا أنه لم ينكر خضوع هذه الأفعال للحتمية المتمثلة في قوانين الطبيعة وقوى الجسد المخلوقان من طرف الله.
2- في الفلسفة الحديثة: نموذج باروخ اسبينوزا.
لقد وجد التصور الرشدي استمرارا غير مباشر له في فلسفة سبينوزا(ق17م). فإذا كان باروخ سبينوزا يقر بأن أفعالنا صادرة عن إرادتنا واختيارنا، فهو يؤكد في نفس الآن على أن ما نقرره ونقوم به محدد بعلل وأسباب جسدية ونفسية، محددة بدورها بعلل خارجية حتمية محايثة لنظام الطبيعة الأزلي. ومن ثمة فالاعتقاد بحريتنا المطلقة في إتيان أفعالنا، ليس إلا وهما، مرجعه إلى جهلنا بالعلل الحقيقية التي تحدد أفعالنا. فلو كان الحجر المتدحرج مفكرا، لتوهم بدوره، أن حركته صادرة عن إرادة حرة. لذلك فالمعنى الذي يمكن أن نعطيه لمفهوم الحرية حسب سبينوزا هو وعي العلل التي تحدد أفعالنا، أي وعي الضرورة والحتمية.
3- في الفلسفة المعاصرة :
أ- تصور سارتر في مقابل مقاربة العلوم الإنسانية مع فرويد ودوركايم مثلا( أنظر المحور الثالث من مفهوم الشخص، مجزوءة الوضع البشري). مع ضرورة الإشارة إلى خصوصية تصور سارتر لمفهوم الإرادة وعلاقته بمفهوم الحرية، إذ الإرادة في نظره مجرد قرار تأملي باطن يقرر أن السعي وراء غايات محددة يتم بالتأمل والروية، في مقابل الميول الوجدانية التي قد تكون لها نفس الغايات، غير أن الإرادة ليست قوة فاعلة ولا تشكل حقيقة الواقع الإنساني وبالتالي الفعل الإنساني، بل إنها تستند إلى حقيقة أسبق منها وهي الحرية الأصلية التي تشكل الشرط الوجودي الحقيقي للإنسان، باعتباره الكائن الذي "وجوده يسبق ماهيته"، كما أن المبدأ الفاعل الذي يترجم هذه الحرية هو الاختيار من بين الممكنات والالتزام بهذا الاختيار وتحمل مسؤوليته أمام الذات وأمام الإنسانية. نخلص في الأخير إلى أن شرط الإرادة هي الحرية الأصلية. هذا في مقابل التصورات الكلاسيكية التي ترى على العكس من ذلك أن الإرادة شرط الحرية، إذ عرف ديكارت، مثلا، الإرادة باعتبارها حرية الاختيار، أي القدرة على القيام بالفعل أو عدم القيام به، أو القدرة على إثبات الشيء أو نفيه، وهي قدرة مستندة إما إلى الحدس القادر على التمييز بين الخير والشر والحق والباطل أو إلى التدبير الإلهي، ومن ثم بالإرادة شرط للحرية، التي هي أهم خاصية للجوهر المفكر، في مقابل قوانين الميكانيكا الآلية التي تحكم الجوهر المادي. كما اعتبر كانط الإرادة ملكة للفعل الأخلاقي، إذ هي شرط تحقق"الاستقلال الذاتي" (الحرية) للكائن العاقل، باعتباره السمة التي تشكل ماهيته والتي تميزه عن كائنات الطبيعة وأشياء العالم المادي، عندما تكون الإرادة هي مصدر تشريع للمبادئ والمسلمات الثاوية وراء الأفعال الاخلاقية.
ب- تصور ميرلوبونتي:
إذا كان سارتر- وخاصة في كتابه"الوجود والعدم"- قد جعل من الحرية المطلقة الماهية القبلية الوحيدة للإنسان، في مقابل المقاربة العلمية التي أكدت العكس من ذلك خضوع الإنسان، على مستوى تشكل خصائصه النفسية والسلوكية، لحتمية شروط موضوعية. فإن ميرلوبونتي انتقد التصورين معا، معتبرا أن الإنسان محدد في البدء بوضعية موضوعية، قوامها تركيبة من الشروط النفسية والاجتماعية. فهو "موجود- في – العالم" و"مع الآخرين"، لكنه يستطيع في نفس الآن أن ينطلق من هذه "المعطيات" الموضوعية ليتعالى عليها ويتجاوزها، مغيرا اتجاه حياته بشكل حر وإرادي.

* الإشكال الثاني :الحرية والقانون.
I. الإطار الإشكالي:
هل يمكن الجمع بين الحرية ، من حيث هي إرادة واختيار، أي قدرة على القيام بالفعل أو عدم القيام به، والقانون بما هو إلزام خارجي؟ وما هي المسوغات المؤسسة لفرضية تنازل الفرد عن حريته المطلقة، وخضوعه الإرادي للقوانين؟ وما المكتسبات التي يمكن أن يحصلها الإنسان داخل الحرية المقننة؟
II. التصورات الفلسفية.
1- التصور الليبرالي- الدولتي(نسبة إلى الدولة):
أ- النظرية التعاقدية:
أسس فلاسفة التعاقد الاجتماعي فكرة المجتمع المدني باعتباره مجتمع الحرية المدنية المقننة التي يلجأ إليها الإنسان بعد خيبة أمله في الحرية الطبيعية المطلقة. إذ في حالة الطبيعة السابقة للاجتماع المدني، يكون الفرد حرا بشكل مطلق في التصرف وفق قدرته، فلا حاجز يعيق حركته الساعية إلى حفظ بقائه، إلا القوة الفيزيائية لمن هو أقوى منه. لكن هذه الحرية غير مجدية، لأنها بقدر ما تضمن للفرد الحق في التصرف بشكل مطلق، بهدف الحفاظ على حقوقه الطبيعية، بقدر ما تمنح للآخرين الحق في التعدي على هذه الحقوق وهذه الحرية، وبالتالي تهديد بقائه. لذلك يهتدي الإنسان بمبدأ العقل ويفضل الحرية المقننة والمحمية بالقانون الممثل للإرادة العامة للأفراد المتعاقدين.يقول روسو:" الحرية هي إطاعة القوانين التي يفرضها الإنسان على نفسه".
ب- تصور مونتسكيو:
عمل المفكر السياسي الفرنسي مونتسكيو، في القرن18، من خلال كتابه الشهير"روح القوانين"، على تحيين التصور التعاقدي وجعله أكثر واقعية، من خلال الدفاع عن النظام السياسي الديمقراطي القائم على مبدأ الجمهورية، الذي يسمح للمواطنين بالقيام بما يريدون في ظل الشروط التي يضعها القانون. فالقوانين هي التي تنظم العلاقات داخل المجتمع وتضمن الحريات، وبالتالي تضمن الخير الأسمى للمجتمع برمته. ولكن تحقيق هذه الغاية مشروط بإحلال مبدأ فصل السلط( التشريعية والتنفيذية والقضائية) وتوازنها، هذا المبدأ الذي يضمن الحد من تعسف كل سلطة بالرقابة التي تمارسها سلطة أخرى: فالسلطة التشريعية (البرلمان) تراقب السلطة التنفيذية(الحكومة)، هذه الأخيرة التي تنفذ القوانين والتشريعات التي تسنها الأولى، أما السلطة القضائية فينبغي أن تستقل نهائيا عن السلطة التنفيذية حتى تكون أحكامها نزيهة. هكذا يمكن للدولة أن تضمن للأفراد ممارسة حريتهم في ظل القانون المشرع ديمقراطيا.

2- التصور الفوضوي(نموذج ماكس سترنر1806-1856):
يتبنى المفكر الفوضوي الألماني ماكس سترنر الدعوى الفوضوية الفردانية التي تضع الفرد كقيمة عليا فوق المجتمع وتدعو إلى تحرر الفرد ، ورفض سلطة الدولة وقوانينها وإلغاء المؤسسات الاجتماعية، وقيم المجتمع الشمولية، التي تجهز على ذاتية الفرد وتلجم حريته. وهو يضع في مقابل المجتمع الذي تحكمه الدولة بأجهزتها وقوانينها المستلبة للحرية، الرابطة الاجتماعية التي هي اتحاد حر بين الأفراد.

3- التصور التاريخاني(نموذج عبد الله العروي):
درس المفكر المغربي عبد الله العروي مفهوم الحرية في تجلياته الاجتماعية والسياسية التاريخية. مميزا بين الأشكال التقليدية للتنظيم الاجتماعي، التي كانت فيها جميع مناحي حياة الفرد محاطة بالمحظورات ذات الطابع المقدس، هذه المحظورات التي تضمن إعادة إنتاج علاقات السلطة الأبوية/الاستبدادية التي تفرض نفوذها على الأفراد في شكل تبعية شخصية مطلقة(الأب، شيخ القبيلة، الملك، السيد...). أما الأشكال الحديثة للتنظيم الاجتماعي، فيتسع فيها مجال الحرية، ولكنها تتخذ صورة عملية تحرر مستمرة، في غمار صراعات طويلة النفس مع الأنظمة والمؤسسات والأنساق القانونية. إلا أن هذه العملية ليست فعلا فرديا منعزلا، وإنما هي مشروع تاريخي جماعي تحمله طبقة اجتماعية(الطبقة العاملة مثلا) أو مجتمع ساع إلى الانعتاق من الاستعمار أو التبعية (حركات التحرر الوطني مثلا).

* تركيب:
نستنتج أن مفهوم الحرية عندما يرتبط بمفهوم القانون، بمعناه الحقوقي والسياسي، يصبح أكثر وضوحا وأقل عمومية وإبهاما، وهذا ما ميز تناول الفلسفة السياسية للمفهوم انطلاقا من العصر الحديث، حيث ابتعدت تدريجيا عن عن التناول الميتافيزيقي ، الذي يتحدث عن الحرية كماهية مجردة وعصية على التحديد. إلا أن الفلسفة السياسية المعاصرة قد أعطت لمفهوم الحرية في ارتباطه بمفهوم القانون، دلالات أكثر دقة، نظرا لارتباط هذه الفلسفة بالقضايا السياسية الملموسة التي يطرحها الواقع المعاصر.




هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

شكرًا جدًا جدًا، عرضك رائع والموضوعات المطروحة رائعة..

Unknown يقول...

شكرًا جدًا جدًا، عرضك رائع والموضوعات رائعة..