السبت، مايو 15، 2010

المعرفة والسياسة

المجزوءة الثانية: المعرفة
- مدخل عام:
تتحدد المعرفة كفعالية تمثلية إدراكية بين الذات العارفة، بملكاتها الذهنية والحسية، وموضوع المعرفة الذي يتمثل في العالم الخارجي أو في الذات نفسها عندما تحاول معرفة حقيقتها. يؤسس هذا النشاط المعرفي الإنساني لعلاقة إيجابية مع العالم ، عبرها ينزع الإنسان طابع الغرابة عن هذا العالم عبر إضاءة خباياه وإضفاء المعقولية والنظام على المعطيات المشتتة التي ترد عليه منه، وصياغة القوانين التي تحكم حركته، ومن ثم السيطرة عليه واستثمار موارده لصالح الغايات البشرية.
ويمكننا القول أن رهان فعالية المعرفة، أولا وقبل كل شيء، هو الوصول إلى الحقيقة، حقيقة الواقع وحقيقة الذات. لكن في أية لحظة من لحظات النشاط المعرفي تستقر الحقيقة، في الإدراك الحسي المباشر أم في التمثلات العفوية الناشئة عن العاطفة والانفعال والآراء المتوارثة، أم في الجهد العقلي المنهجي والواعي بذاته؟ ومهما كان الجواب، لابد لكي تكون الحقيقة مقبولة كونيا من وجود معيار ذو مصداقية، فهل يوجد هذا المعيار لدى الذات العارفة أم يكمن في موضوع المعرفة نفسه؟ وفي كلتا الحالتين، لابد أن نتساءل: هل وجود هذا المعيار معناه امتلاكا نهائيا للحقيقة المطلقة وسدا نهائيا لباب الاختلاف والتنوع؟
لكن نشدان النشاط المعرفي البشري للحقيقة لا يقتصر على مجال واحد، وإنما يشمل عدة مجالات منها العلمية والتقنية والأخلاقية والجمالية والميتافيزيقية. إلا أن مجال العلم، منذ العصر الحديث، واستجابة لشروط اجتماعية وإبستيمولوجية، استطاع أن يحتل مكان الصدارة. فما الذي يميز النظريات العلمية عن غيرها من إنتاجات العقل البشري؟ وما هي المواصفات التي ينبغي أن تتوفر في معرفة معينة كي تصبح علمية؟


الوحدة الأولى: الحقيقة
* تقديم:
إذا كانت الحقيقة رهانا لكل فعل معرفي، وإذا كانت المعرفة فعالية إدراكية قائمة بين العقل والواقع، فما هي الدلالات التي اتخذها مفهوم الحقيقة عبر تاريخ الفلسفة؟ وما هي مكانة كل من العقل والواقع داخل هذه الدلالات؟
يجرد أندريه لالاند دلالات مفهوم الحقيقة في معجمه الفلسفي كالتالي:" هي بشكل عام خاصية كل ما هو حق ce qui est vrai، وهي القضية الصادقة بداهة، أو القضية التي تمت البرهنة عليها، وهي شهادة الشاهد عما فعله أو رآه، كما يمكن أن تعني الواقع الخارجي نفسه".
نستنتج من خلال هذه الدلالات أن مفهوم الحقيقة قد اتخذ عبر تاريخ الفلسفة، ثلاث دلالات أساسية، أولها أن الحقيقة هي مطابقة الفكر لذاته، أي لقواعده الداخلية(الوضوح وعدم التناقض)، وثانيتهما مطابقة الفكر لإدراكات الحواس، ثالثتها أن الحقيقة من طبيعة أونطولوجية أي أنها هي الواقع ذاته. ومن هنا فالعلاقة بين هذه المفاهيم(المعرفة، الفكر، الحواس، الواقع، قواعد الفكر...) تطرح عدة إشكالات إبستيمولوجية.

* الإشكال الأول: الحقيقة والرأي:
I. البناء الإشكالي:
إذا كانت الحقيقة هي رهان النشاط المعرفي، وبالتالي هي أرقى مرحلة من مراحل النشاط المعرفي، وإذا كان الرأي هو ذلك الاعتقاد العفوي المبني على الإدراك الحسي المباشر والتمثلات العامية المشتركة ذات الطابع الانفعالي، فهل يشكل الرأي مقوما من مقومات الحقيقة وسبيلا من سبل المعرفة المؤدية إلى الحقيقة، أم هو عائق يحول دون الوصول إلى معرفة موضوعية ويقينية؟ وهل يشكل هدمه والقطع معه شرطا لازما لإدراك الحقيقة؟
II. التصورات الفلسفية:
منذ أن تأسس "مبحث المعرفة" داخل مجال التأمل الفلسفي، ومسألة علاقة بادئ الرأي بالمعرفة الحقيقية تطرح كمسألة جوهرية، لأن في الجواب عليها تأسيسا لهوية التفكير الفلسفي نفسه وتبريرا لقيامه، فذلك أفلاطون إبان لحظة نشأة الفلسفة، ومن خلال أمثولة الكهف التي عرض من خلالها نظريته في المعرفة بشكل تصويري، قد رهن إمكانية بلوغ الحقيقة المطلقة بتحرر النفس من سجن الحواس ومعرفة الظن والخيال التي هي نمط المعرفة عند عامة الناس، وارتقاءها صوب التأمل العقلي الخالص في الحقائق المعقولة، مرورا بتمرنها على التجريد من خلال الاشتغال بالرياضيات. وهو التقليد الفلسفي الذي واصله الفيلسوف الفرنسي ديكارت في القرن 17، بتأسيسه لمنهج في المعرفة يقود العقل إلى المراجعة الشاملة والنقدية لحمولته من الأحكام المسبقة والجاهزة التي يتلقاها بشكل سلبي من الحس أو المجتمع أو الأهواء، لكي يؤسس المعرفة على أساس يقيني متين. إلا أن لايبنتز، التلميذ الألماني لديكارت، كان أكثر اعتدالا في موقفه من الرأي، إذ اعتبره درجة من درجات المعرفة تتسم بالاحتمال في أفق البرهنة على صحته ليرتقي إلى درجة الحقيقة اليقينية. بيد أن الاتجاه العقلاني-النقدي في الإبستيمولوجيا المعاصرة، وكرد فعل على سيادة التأويلات الوضعية التجريبية المتطرفة لعلاقة المعرفة العامية بالمعرفة العلمية، والتي تعتبر الثانية امتدادا للأولى، قد اعتبر الرأي "معرفة" صادرة عن تفكير نفعي ضيق يخلط بشكل عفوي بين الحاجات المباشرة للناس ومعرفتهم بحقيقة الأشياء التي هم في حاجة إليها، مما يشكل عائقا إيبستيمولوجيا يحول دون بلوغ معرفة حقيقية بتلك الأشياء. ومن ثمة وجب إحداث قطيعة مطلقة مع الرأي، من أجل تأسيس المعرفة العلمية، سبيلا لبلوغ الحقيقة، من حيث هي معرفة متحررة من النزوع النفعي اللاواعي، وتنطلق ، بالمقابل من طرح المسائل قيد الدراسة بكيفية واضحة وواعية بذاتها. بما في ذلك أن يخضع العلماء لنوع من التحليل النفسي لكي يعوا فلسفاتهم العفوية ويتحرروا منها لأنها تشكل عائقا إبستيمولوجيا أمام بحثهم العلمي، وبالتالي أمام الوصول إلى الحقيقة.

* الإشكال الثاني: معايير الحقيقة.
I. البناء الإشكالي:
إذا كانت الحقيقة لا تقوم إلا بتمييزها عن نقيضها(الكذب، الوهم، الخطأ، الخيال...)، فما هو المعيار الأمثل للتمييز بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي؟ هل يتمثل ها المعيار في مبادئ العقل، أم في معطيات الحس، أم في الوجود الواقعي للأشياء، أم في نوع من المطابقة بين العقل والواقع؟
II. التصورات الفلسفية.
1- في الفلسفة الحديثة:
إذا كان ديكارت قد انتقد المنطق الأرسطي نقدا لاذعا باعتبار استدلالاته غير منتجة وتتم المصادرة فيها على المطلوب، ومجد في المقابل معيار البداهة كأداة لتعيير حقيقة الأفكار، مستعيرا إياه من المبادئ التي تقوم عليها الهندسة الأقليدية، فإن تصور لايبنتز يشكل عودة إلى تمجيد الاستدلال البرهاني كمقياس لحقيقة الأفكار، إلا أن كليهما لا يخرج عن النظرة العقلانية للمسألة.
و بخلاف النظرية العقلانية في المعرفة التي جعلت من العقل مستقرا للحقيقة، ومن قوانينه معيارا لها، وبخلاف النظرية التجريبية في المعرفة التي جعلت من التجربة الحسية معيارا لحقيقة المعرفة التركيبية[1]، بحيث إذا لم تجد الفكرة أصلا لها في الانطباعات الحسية فهي فكرة ميتافيزيقية لا تستحق اسم المعرفة، بخلاف هذين المقاربتين الفلسفيتين، ومن خلال نقدهما، قامت نظرية المعرفة الكانطية على الاستدلال التالي:
إذا كان المطلوب هو البحث عن معيار كاف وكوني للحقيقة، وإذا كانت الحقيقة تقوم على مطابقة المعرفة لموضوعها، فإن القول بمعيار مادي صرف، أي معيار يستهدف المعرفة من حيث محتواها التجريبي، هو قول ينطوي على تناقض، لاستحالة تطبيق ذلك المعيار على كل موضوع من موضوعات المعرفة التجريبية على حدة. كما أن اعتماد معيار عقلي صرف، أي معيار يستهدف الصورة المنطقية للمعرفة، يعتبر ممكنا لكنه غير كاف، وإلا مكثنا في مستوى العقل الخالص في استقلال تام عن المحتوى الواقعي، بل إننا إذا دفعنا باستدلالات العقل الخالص إلى أقصاها سقطنا في النقائض والتناقضات. بسبب كل هذا فشرط إمكان المعرفة ومعيار حقيقتها، هو أن تكون من جهة معرفة قبلية وضرورية، أي مستندة إلى مقولات الفهم العقلية، وأن تكون من جهة ثانية معرفة تركيبية أي مستندة إلى الحدوس التجريبية.فالعقل عند كانط يبني ويشيد المعرفة الحقيقية، عبر إضفاء النظام بواسطة مقولاته على مادة التجربة، فكما قال كانط: "المقولات العقلية بدون حدوس تبقى جوفاء، والحدوس الحسية بدون مقولات تبقى عمياء".
2- في الفلسفة المعاصرة:
لقد انطلق التفكير الفلسفي المعاصر في إشكالية الحقيقة من نقد مفهوم المطابقة ( بمعنييها العقلاني والتجريبي). فمثلا في تصدي الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر لمقولة المطابقة كمعيار للتمييز بين صدق الأفكار وكذبها، اعتبر أن هذه المقولة متناقضة لأننا لا يمكن أن نبحث عن مطابقة بين التمثل الذهني واللفظ اللغوي من جهة والشيء المادي من جهة ثانية، لأنهما من طبيعتين مختلفتين تماما. كما أن هذا المعيار يقوم على إسقاط المسبقات الذهنية للذات العارفة على الكائن موضوع المعرفة، ولذلك اعتبر أن الحقيقة انفتاح للذات على الكائن، كما هو عليه، وتحررها من مقولاتها المسبقة، لأن هذا هو الشرط الذي على أساسه يمكن أن ينكشف الكائن كما هو عليه باعتباره"عطاء". فالحقيقة إذن حرية وانكشاف.

المحور الثالث: قيمة الحقيقة
I. البناء الإشكالي:
إذا كانت الحقيقة مطلوبة من قبل الجميع، باعتبارها مرجعا لكل نسق فكري ولكل خطاب لغوي، فمن أين تستمد الحقيقة هذه القيمة؟ هل تستمده من الصدق القبلي والمطلق للأفكار على المستوى المعرفي والأخلاقي، أم مما يترتب عنها من نتائج عملية؟
II. التصورات الفلسفية:
1- في الفلسفة ما قبل المعاصرة:
إذا ما تأملنا الدلالة الاشتقاقية لتسمية الفلسفة"محبة الحكمة"، من حيث هي حمالة لمعاني فعل النشأة، سنجد أن التفلسف نشأ كسعي وراء الحكمة، أي المعرفة الحقيقية، غير أن لفظة الحكمة تحمل أيضا معنى أخلاقيا، فالحكيم هو ذلك الشخص المتزن في سلوكه، والملقي للوصايا الخالدة، والمساهم في تأسيس الحياة السياسية(سولون ساهم في وضع دستور أثينا). بل إن لفظة المحبة تكثف حمولة أخلاقية واضحة، تتمثل في التواضع وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة وما يستتبعه من احترام للآخر والتسامح معه، كما تتمثل هذه الحمولة الأخلاقية في ما أسماه أرسطو بصداقة الفضيلة، التي تتضمن التطلع إلى الكمال والخير، أي إلى الحقيقة الأخلاقية المطلقة من خلال العلاقة مع الصديق.
من هنا يمكننا القول أن الحقيقة شكلت منذ بداية الفلسفة، رهانا مزدوجا: فهي رهان معرفي مرتبط بإدراك الذات العارفة لموضوع المعرفة إدراكا مطابقا ومميزا الخطأ من الصحة، ثم هي في نفس الآن رهان أخلاقي، مرتبط بالمواقف العملية والعلائقية للذات الحرة والمسؤولة، المميزة بين الخير والشر. فالحقيقة إذن استمدت قيمتها من هذا الرهان المزدوج.
فقد قال أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد:" إننا نحب أفلاطون ونجله، لكننا نحب الحقيقة أكثر"
وقال كانط في القرن الثامن عشر:" إن الحقيقة واجب قطعي على الإنسان تجاه كل إنسان..مهما كانت الظروف.. لأن من كذب على شخص فإنما أجرم في حق الإنسانية قاطبة".
ما يمكن استنباطه من خلال التأمل في قيمة الحقيقة في إطار الفلسفة ما قبل المعاصرة، سواء في شقها المعرفي أو الأخلاقي، أي أننا نجل الحقيقة لذاتها وليس لجلب منفعة أو دفع مضرة، لأن الفكرة الحقيقية- معرفيا وأخلاقيا- تحمل خاصية الصدق بشكل قبلي وثابت وكوني(المعرفة المستذكرة عند سقراط، المثل عند أفلاطون، الحقيقة الإلهية والبرهانية عند ابن رشد، الأفكار الفطرية البديهية عند ديكارت، مقولات الفهم القبلية عن كانط...).
لكن لا بد من الإشارة إلى أن تاريخ الفلسفة لم يخلو من حركات فكرية لا تؤمن بإطلاقية الحقيقة وقيمتها العليا، مثل الحركة السوفسطائية التي كانت تقول بأن هدف الاستدلالات العقلية ليس الوصول إلى حقيقة موضوعية مستقلة عن الذوات، وإنما هو إقناع المخاطب وإفحام الخصم وكسب رهان المفاوضات، ومن ثمة فقيمة الحقائق ليست قبلية وإنما تستمد من داخل الحوار ومن نتائجه. هذا ناهيك عن النزعات الريبية التي أنكرت أي إمكانية إدراك الحقيقة.
2- في الفلسفة المعاصرة:
قام نيتشه بدراسة جينالوجية لتاريخ الثقافة الغربية برمته بصفة خاصة والثقافة البشرية بصفة عامة، وبالتالي الحقائق المكونة لهذه الثقافة، بهدف استكشاف الأصل الذي نبعت منه والأساس الذي قامت عليه، فخلص إلى النتيجة التالية:
من أجل أن يحفظ كل فرد بقائه حيال عنف الآخرين، ومن أجل أن يعيش معهم داخل المجتمع، كان لابد من إحلال السلم في العلاقات البشرية، ومن أجل إرساء هذا السلم، كان لابد من استخدام العقل لتحديد ما ينبغي أن يكون "حقيقة" وفق المعايير التالية:
- الحقيقة التي تخدم غريزة حفظ البقاء.
- الحقيقة ذات العواقب الحميدة والممتعة، أي التي تؤمن التنعم بالأمن والسكينة..
- معاداة الحقائق المؤذية.
- عدم الإكتراث بالمعرفة الخالصة غير المثمرة
فتغدو الحقائق بذلك، هي كل ما يؤمن هذا المطلب الغريزي، وإن كان وهما، لا المعرفة الخالصة التي تطابق الشيء كما هو في ذاته.
أما آلية إنتاج هذه الحقائق/الأوهام فهي اللغة، أو بعبارة أدق الاستعارة. بحيث تم تمويه وتجميل العلاقات البشرية شعريا وبلاغيا، حتى غدت مع طول الاستعمال تبدو مشروعة وصحيحة وملزمة. فأن يكون المرء صادقا معناه أن يستعمل الاستعارات المقبولة من طرف المجتمع، لأن في ذلك شرط قيامه هذا الأخير واسمراره، وإلا حلت "الأزمة المأساوية" حين يتم اكتشاف الأوهام المؤسسة للمجتمع والحضارة.
من هنا نستخلص أن الحقائق المطابقة لا تحمل أية قيمة في تاريخ الفكر البشري، بل إنها قد تكون مؤذية وهدامة، لذلك يتم استبدالها بالأوهام المفيدة التي تستمد قيمتها من قدرتها على حفظ البقاء واستتباب السلم والأمن.

ومن داخل الثقافة الأنجلوسكسونية ذات التقاليد التجريبية العملية، أسست البرغماتية مع وليم جيمس تصورها للحقيقة على مراجعتها لمفهوم المطابقة بين الفكر والواقع. إذ الفكرة الحقيقية ليست صورة مطابقة للشيء، وبالتالي فصدقها ليس خاصية ثابتة متضمنة فيها بشكل قبلي. وإنما الفكرة تصبح حقيقية وتكتسب صدقيتها بفضل حدث يمكن أن يعرض لها فيجعلها كذلك، أو بعبارة أوضح، من خلال قدرتها على إنجاز عمل ما وأداء وظيفة معينة. فالقضية لا تكون حقيقية إلا إذا كان قبولنا لها ينتهي بنا إلى نتائج مرضية في حياتنا، فالحياة وحدها هي التي تفصل في قيمة الحقائق. ومن ثمة فنحن نساهم في جعل الفكرة حقيقية من خلال انخراطنا في إنجازها، فكما قال وليم جيمس "الحقيقة اختراع Invention وليست اكتشافا Découverte"، بل إن جيمس يذهب إلى حد القول ب"إرادة الاعتقاد"، أي أنه يكفي أحيانا أن نؤمن بفكرة معينة ونعمل بها، لجعلها حقيقية.
من هنا يمكننا أن نخلص إلى أن قيمة الحقائق(بالجمع) تتوقف على فعاليتها العملية وقدرتها على التغيير في الحياة على نحو مرض، إذ يمكن القول أن الحقائق عبارة عن فرضيات ناجحة، بينما الخطأ هو فشل وعجز.

* تركيب:
اتخذ مفهوم الحقيقة، منذ نشأة الفلسفة حتى القرن 19، دلالة الماهية المطلقة التي تحدد نفسها بنفسها، باستقلال عن أية شروط زمنية خارجية عنها. فقد تم تصورها كخاصية قبلية وثابتة للأفكار والقضايا، وتم تحديد معايير كونية وشمولية، كعلامات لاكتشافها( البداهة، قوانين الاستدلال البرهاني، الضرورة، التحقق التجريبي...). لكن ابتداء من نهاية القرن 19 إلى الآن، عمل رواد الفلسفة المعاصرة(نيتشه، وليام جيمس، فتجنشتين، ميشيل فوكو..) على بلورة تصور جديد وثوري للحقيقة، مفاده أنها مجرد نتيجة عرضية ظاهرة لشروط وبنيات خفية، تجد جذورها في الغريزة والاقتصاد والسياسة، وبشكل مجمل، في التاريخ، إلى درجة يمكن نعت المقاربات الفلسفية المعاصرة للحقيقة ب"اقتصاد سياسي للحقيقة" بتعبير ميشيل فوكو.


الوحدة الثانية: النظرية والتجربة
* تقديم:
الدلالات:
-النظرية Théorème: "مجموع المفاهيم المنظمة في نسق استدلالي محكم، والتي ترمي إلى فهم وتفسير الواقع أو جانب منه"A.C .
ويعرفها لالاند باعتبارها، بناء فرضيا استنباطيا، أو" إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ"
- التجربة Expérience: الخبرة المباشرة، أو ملكة المعرفة عبر الحدس الحسي(تجربة خارجية) أو عبر الحدس النفسي(تجربة داخلية)، مع حد أدنى من تدخل فاعلية البناء العقلي. Albert jacquard .
- التجريب Expérimentation: التجربة المبنية عقليا وليست المعطاة مباشرة من الطبيعة، أي التجربة المنظمة الخاضعة لتدخل العقل الذي يفرض شروطا نظرية نموذجية، يعيد من خلالها بناء الظواهر(مساءلة منهجية للطبيعة).
- مفهوم العقلانية rationalisme et rationalité.
اتخذ مفهوم العقلانية ثلاثة دلالة مختلفة، باختلاف المجالات التي تنتمي إليها:
- العقلانية الفلسفية:
يحيل مفهوم " العقلانيّة "، في الفلسفة، إلى اتّجاه فكري بدأ مع أفلاطون و تواصل مع ديكارت و سبينوزا...، يعتبر العقل الأداة الوحيدة القادرة على تكوين معرفة حقيقيّة.
لكن هل من المشروع اعتبار الفلسفات التّي تؤكّد على أهمّية التّجربة في تحصيل المعرفة ( لوك، هيوم الخ...) فلسفات غير عقلانيّة، على الرغم من قولها بإمكانية معرفة الإنسان للطبيعة، أي عقلنته لها؟
- العقلانية العلمية:
يجد مفهوم العقلانية العلمية جذوره في المعاني الاشتقاقية والاصطلاحية لمفهوم العقل، إذ دلت لفظة اللوغوس اليونانية على النظام المحايث للكون والعقل معا، ثم أصبحت كلمة Raison/عقل مع لايبنتز مرادفة ل Cause/سبب، من خلال بلورته لمبدأ السبب الكافي principe de la raison suffisante. مما يسمح بالقول أن العقلانية العلمية هي نمط من التفكير والمعرفة قائم على افتراض أساسي، وهو أن الطبيعة يحكمها نظام من القوانين الضرورية التي تربط بين ظواهرها، وهو ما يجعلها قابلة للفهم. هذا الفهم الذي لا يتسنى إلا بالبحث المنهجي والمنظم في أسباب الظواهر ومبادئها، بعيدا عن كل تأويل سحري ماورائي خاضع للتقليد أو العاطفة أو الخبرة الحسية العفوية.
- العقلانية الاجتماعية الاقتصادية السياسية:
يتجاوز مفهوم العقلانية بعده النّظري، ليصبح في المجتمعات الصّناعيّة الحديثة والمعاصرة، كما تحدثت عنه مدرسة فرانكفورت(فيبر، أدورنو، هوركهايمر..)، دالا على قاعدة أساسيّة لكلّ عمل و فعل تاريخي، قائم على تخطيط وبرمجة وتحديد للأهداف، في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد.
بيد أن ما يهمنا هنا هو العقلانية في مفهومها العلمي.
- مفهوم الفرضية العلمية hypothèse :
- في الرياضيات: معطيات أولية مسلم بها، كمنطلق لعملية الاستنباط في نسق رياضي معينthéorème.
- في العلوم التجريبية: قضية مسلم بها مؤقتا، تلعب وظيفة قانون احتمالي عام مفسر للظواهر، وهي منذورة للخضوع إلى التحقق التجريبي.
- القانون في المجال العلمي: يعرفه أوغست كونت باعتباره"العلاقة الثابتة بين الظواهر الملاحظة" وتتمثل وظيفته في الوصف، وهو يقابل مفهوم المبدأ أو القانون العام، الذي يشتمل بالإضافة إلى دلالات القانون على معنى العلة أو السبب، وتتجلى وظيفته في التفسير، أي في إرجاع الظواهر الجزئية إلى علل و مبادئ كلية، تفسر الطبيعة ككل واحد.

* الإشكال الأول: التجربة والتجريب.
I. البناء الإشكالي:
على الرغم من أن النظرية العلمية بناء عقلي فرضي فإنها ترتبط بشكل أو بآخر بالواقع التجريبي، سواء على مستوى منطلقات بنائها أو على مستوى امتحان صلاحيتها، فما طبيعة هذا الواقع التجريبي الذي تستند إليه النظرية العلمية؟ وهل يتعلق الامر بتجربة معطاة مباشرة للحواس، أم بتجربة مبنية وفق شروط نظرية نموذجية؟
II. التصورات الإبستيمولوجية
يفتحنا إشكال التجربة والتجريب على إشكالية أعمق وأشمل، هي إشكالية التحول الثوري من النموذج العلمي القديم الذي مثلته فيزياء أرسطو إلى النموذج العلمي الحديث الذي أسس له كوبيرنيك وكاليلي وصاغه نيوتن صياغة كلية. فالنموذج الأول انطلق من الخبرة الحسية المباشرة ليصوغ تصورا كيفيا للعالم اعتمادا على مبادئ ميتافيزيقية، بينما النموذج الثاني انطلق من تصور رياضي هندسي مسبق للعالم، يوجه كل بحث تجريبي في الظواهر، التي غدت عبارة عن تجريدات كمية قابلة للقياس. ومن ثمة كان شرط قيام هذه الثورة العلمية هو تجاوز عائق التجربة الحسية المباشرة و تأويلاتها الميتافيزيقية.
لذلك يؤكد العالم التجريبي كلود برنار أن الملاحظة الحسية المباشرة(التجربة) لا تشكل إلا مصدرا أوليا لاستلهام الفرضيات التي يبنيها العالم اعتمادا على الإبداع العقلي، بل إن تلك الملاحظة نفسها قائمة على عزل قصدي للظاهرة الملاحظة، أن سيرورتي الاستدلال العقلي الرياضي والتجريب سيرورتان متداخلتان لا يمكن الفصل بينهما. هذا التوجه الابستيمولوجي هو ما يعمقه رونيه توم، في معرض نقده لموقف فرانسيس بيكون(مؤسس المنهج التجريبي) القائل بأن التجربة وحدها هي التي تتيح التحليل السببي لظاهرة من الظواهر، إذ قال رونيه توم:" إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما...ولا يمكن له ليكون علميا، أن يستغني عن التفكير، والتفكير عملية صعبة تفلت من كل رتابة ومن كل منهج...). إذ يتعلق الأمر في التجريب العلمي، بعملية بناء لوقائع تجريبية نموذجيةقابلة للتكرار ومستجيبة لإشكالية علمية قائمة وموجهة بفرضيات عقلية ذات مصدر مزدوج، فهي مستلهمة من المكتسبات النظرية السابقة، بالإضافة إلى انبثاقها من القوة الإبداعية الخلاقة للعقل.

* الإشكال الثاني: العقلانية العلمية
I. البناء الإشكالي:
إذا كانت العقلانية العلمية هي النمط الذي يفكر العلم وفقه، والمبني على افتراضات مسبقة محددة ومناهج معينة ولغة خاصة، فما خصوصية العقلانية العلمية؟ وهل هي عقلانية واحدة وثابتةومتعالية على حركة التاريخ، أم هي متعددة ومحايثة للتطور التاريخي؟

II. التصورات الإبستيمولوجية:
يتصور J.P.vernant العقل، بما هو أنماط معينة من التفكير وتقنيات ذهنية خاصة توجه الاستدلال والتجربة، خاضع للشروط التاريخية. ومن ثمة فهو نسبي ومتغير، بتغير الموضوعات المفكر فيها واللغة المستعملة والمستوى التكنولوجي. بل إن العقل محايث للتاريخ البشري في كل مستوياته(السياسية، الاقتصادية...). ويعترض على العقلانيين التقليديين الذين يعتبرون العقل جوهرا ثابتا ومتعاليا على حركة التاريخ، قوامه مبادئ قبلية ومطلقة، تحدد على الدوام كل نشاط معرفي. إذ يعتبرون، على سبيل المثال، أن التحولات الجذرية، التي عرفتها الرياضيات(أزمة الأسس، الرياضيات اللاأقليدية...) والفيزياء(من الماكروفيزياء النيوتونية إلى الميكروفيزياء المعاصرة)، نشازا وشذوذا، بينما اعتبرها العقلانيون النقديون(مثل غاستون باشلار) دليلا على حيوية الفكر العلمي وتقدمه. ومن هنا يمكننا أن نخلص إلى الخلاصة التالية:
إذا كانت العقلانية العلمية الحديثة، وتحت تأثير ثورة الفيزياء الكاليلية-النيوتنية وتركيبة من الشروط التاريخية الأخرى، قد مثلت نمطا جديدا من التفكير قام على أنقاض نمط التفكير اللاهوتي القروسطوي، إذ تم تنصيب العقل البشري كمركز لإنتاج المعرفة مستقل عن أية مرجعية مفارقة، وقادر على قراءة "كتاب الطبيعة المفتوح" وتفكيك شيفرته الرياضية ووصف العلاقات السببية الحتمية الرابطة بين ظواهره، فإن هذا العقل مع ذلك، تم تصوره كجوهر ثابت يحتوي على مضمون معرفي ومنهجي قبلي ومطلق(البداهات، المقولات...)، بغض النظر عن السيرورة الملموسة لنشاطه المعرفي وكشوفاته المتوالية وتعدد مجالات اشتغاله. إلا أن الثورات الإبستيمولوجية التي حصلت في مجالات البيولوجيا والرياضيات والفيزياء(أنظر الجدول) في أواخر القرن 19 وبداية القرن العشرين، والتي أجبرت البراديكمات العلمية التي كانت سائدة على التراجع لصالح براديكمات جديدة، سمحت ببزوغ عقلانية علمية مغايرة، أعادت النظر في الافتراضات التي حكمت التفكير العلمي الكلاسيكي. فقد أصبحت المبادئ والمنطلقات مجرد مسلمات تتسم بطابع النسبية والقابلية للتجاوز. كما أن نظام الطبيعة لم يعد يتصور خاضعا لحتمية شاملة، ولم تعد ظواهره قابلة للضبط الموضوعي الدقيق. وهكذا انفتح المجال أمام مفاهيم اللاحتمية والاحتمال واللاتحدد وتعدد المنظومات الطبيعية التي تنتمي إليها الظواهر. فتحول العقل من حامل للحقيقة اليقينية المطابقة لقوانين الطبيعة الحتمية، إلى نشاط منهجي خلاقة قادر على صياغة مفاهيم ومنظومات متعددة (تكاملية نيل بور)، تنطبق بصورة احتمالية وقطاعية على الظواهر الطبيعية. باستعمال لغة رياضية جديدة مناسبة لهذا التحول هي الرياضيات الماتريسية وحساب الاحتمال، مما يعني أن انفتاح العقل لا يعني كفره المطلق بالحتمية الطبيعية و بقابلية الظواهر للقياس الرياضي، لأن هذين المفترضين هما شرط قيام العلم. و في الأخير لا يسعنا إلا أن نقول: إن العقل محايث للصيرورة التاريخية.

* الإشكال الثالث معايير علمية النظريات العلمية.
I. البناء الإشكالي:
إذا كانت صفة "العلمية" لا تسند إلى النظريات بشكل بديهي، فما هي المعايير التي على أساسها تتحدد الصلاحية العلمية لنظرية ما؟ هل يتعلق الأمر باحترام قوانين الاستنباط العقلي، أم بالتطابق مع معطيات التجربة؟
II. التصورات الإبستيمولوجية:
إذا كان الميسم الأساسي للعلم الحديث هو ترييض الطبيعة، فإن بناء النظريات العلمية وامتحان صلاحيتها، لا يستندان مع ذلك على البرهنة الرياضية فحسب، وإنما يستندان أيضا إلى التجريب على الأجسام الواقعية القابلة للملاحظة والقياس الدقيق، حيث أن بناء النظرية العلمية -كما نستنتج من نص P.Duhem – يشكل سيرورة شبه دائرية تنطلق من ملاحظة خصائص الاجسام لتعود إلى إقامة التجريب على هذه الأجسام، وبذلك شكل التجريب المحك الحاسم لتعيير صلاحية النظريات العلمية.
إلا أن أزمة الأسس في الرياضيات قد أفضت إلى خلق رياضيات ذات طابع أكسيومي، تقوم على ضرورة الإعلان الصريح للحدود والقضايا الأولية المسلم بها، والتي نعتزم بواسطتها البرهنة على سائر القضايا الأخرى، وضرورة أن تكون العلاقات المنصوص عليها بين الحدود الأولية علاقات منطقية صرف مستقلة عن المعنى العيني الذي يمكن أن نضفيه على الحدود، وأن تتدخل هذه العلاقات المنطقية وحدها في البراهين، بصرف النظر عن معنى الحدود(M.Pasch دروس فس الهندسة التجديدية 1882).
ولأن العلوم المعاصرة عامة، والفيزياء على الخصوص، أصبحت تدرس ظواهر طبيعية متناهية في الصغر، وبالتالي غير قابلة للملاحظة والقياس التجريبي الدقيق، فإن الأكسيومية انتقلت من الرياضيات إلى بقية العلوم، ليصبح العلم الطبيعي نفسه علما نظريا رياضيا صرفا. الأمر الذي لا يعني إحداث القطيعة المطلقة مع العلم الحديث وإنما دفعا بعملية ترييض الطبيعة إلى أقصاها. يقول أينشتاين: " إنطلاقا من تجربتنا إلى حدّ اليوم، لنا الحقّ في أن نقتنع بأنّ الطّبيعة هي تجسيم لأبسط ما يمكن أن نتخيّله رياضيّا. و أنا متيقّن من أنّ البناء الرّياضي المحض يمكّننا من اكتشاف تلك المفاهيم و تلك المبادئ الرّابطة بينها التّي تعطينا مفتاح فهم الظّواهر الطّبيعيّة"، فالعالم عندما ينغلق في بناءاته النّظريّة الصّوريّة و عندما ينقطع عن التّجربة الحسّية، فهو في ذلك لا يخون الطّبيعة و لا يقدّم صورة مغلوطة عنها، بل هو ينجح في النّفاذ إلى صميم هذه الطّبيعة ذاتها. أصبح إمكان العقل بفضل الرياضيات إذن، كما يؤكد أينشتين، أن يفهم الطبيعة دون اللجوء أو الاستعانة بالتجربة إلا لماما أو على نحو ذهني، إذ أصبح النّسق الفيزيائي يشتمل على مفاهيم أو قضايا أوّليّة أبدعها العقل الحر، تكون المنطلق النّظري لجملة من النّتائج التّي تُستخلص منها عن طريق الإستدلال المنطقي. وبهذا أصبحت قوانين المنطق الرياضي وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض هي المعيار الحاسم لصلاحية النظريات العلمية، بالإضافة إلى قدرتها على التفسير.
و إذا ما استقرأنا مختلف النظريات الإبستيمولوجية، سواء تلك التي درست العلم الكلاسيكي أو التي جعلت من الثورات العلمية المعاصرة منطلقا لها، فإننا يمكن أن نجرد معايير صلاحية النظريات العلمية كالتالي:
- معيار عدم التناقض، أو التماسك المنطقي الداخلي.
- معيار القابلية للتحقق التجريبي.
- معيار الاقتصاد في عدد القضايا والحدود والبساطة في البناء.
- معيار القدرة على تفسير أكبر عدد من الظواهر المدروسة.
بالإضافة إلى المعيار الذي اقترحه الإبستيمولوجي المعاصر "كارل بوبر، وهو القابلية للتكذيب، ويعني أن تكون النظرية قابلة لأن نشتق منها، بالإضافة إلى القضايا التي تتسق معها والتي أيدتها التجربة، قضايا أخرى تناقضها، فتكون هذه الأخيرة منطلقا لبناء فرضيات جديدة. ولا يمكن أن نقول عن هذا المعيار إلا أنه يكسب النظرية العلمية حيوية وقدرة أكبر على تجاوز ذاتها من خلال السماح للقضايا التي لم تثبتها التجربة بعد، لأن تكون محفزا لتطور العلم، وليس الحكم عليها كما فعل الوضعيون، بأنها كاذبة وميتافيزيقية، فقط لأن التجربة لم تؤيدها.
وإذا وإذا كانت كل نظرية إبستيمولوجية تركز على معيار أو أكثر حسب المرحلة التاريخية التي تنتمي إليها، والاتجاه الفلسفي الذي تشكل امتدادا له، فإن هذه المعايير في مجموعها تعتبر متكاملة في واقع الأمر وهذا ما يشكل قوام الرؤية السائدة في الإبستممولوجيا المعاصرة.

الوحدة الثالثة: علمية العلوم الإنسانية
1- نظرة تاريخية حول نشأة العلوم الإنسانية. إذا كانت الظواهر الطبيعية عرفت تفسيرها العلمي منذ القرنين 16و17...،فإن العلوم الإنسانية سيكولوجية كانت أو سوسيولوجية أو تاريخية اقتصادية أو لغوية...لم تبدأ مرحلتها العلمية إلا مع القرن19 وبداية القرن20 .
فكيف فهم الإنسان الظاهر المتعلقة به قبل هذه المرحلة؟
*الظواهر النفسية:كان الإهتمام بها حاضرا منذ القديم،إذ نجد أن مختلف الحضارات القديمة قد حاولت تفسير الحالات المزاجية و النفسية للإنسان،بل واهتمت بالإضطرابات العقلية المرضية دون أن تتمكن من ذلك علميا،إذ اتخذ تفسيرها طابعا ميتافيزيقيا...استمر الإهتمام بالظواهر النفسية يطريقة نظرية مشبعة بالروح الميتافيزيقية إلى القرن 19حيث اتخذ علم المظاهر النفسية شكله العلمي الأول مع العالم الألماني فوندت wundt(1832-1920)الذي أنهى العلاقة بين "علم النفس"(مصطلح وضعه الفيلسوف وولف-1679.1754_،psychologie وهو مشتق من الأصل الإغريقيpsyché وتعني نفس،ومن logos وتعني العلم والعقل،أما التسمية التي كانت سائدة قبل ذلك فهي علم الأرواح)،وذلك بوضعه أسس علم نفس تجريبي من خلال تأسيس أول مختبر لعلم النفس التجريبي سنة1879.
وفي الفترة الممتدة بين النصف الثاني من القرن19 والنصف الأول من القرن20 ازدهرت الدراسات السيكولوجية بظهور معظم المدارس الكبرى التي عرفها علم النفس :المدرسة السلوكية والمدرسة الشعورية ومدرسة التحليل النفسي مدرسة الجشطالت.
*الظواهر الإجتماعية:كانت حاضرة دائما في التأمل الفلسفي دون أن تأخذ شكلا علميا، فأفلاطون مثلا تناول مختلف القضايا الإجتماعية كالأسرة والتربية والطبقات الإجتماعية والأخلاق...في كتابيه" الجمهورية" "السياسة"،إلا أن اهتمامه ظل بعيدا عن التفسير العلمي يطغى عليه الطابع الميتافيزيقي،كذلك حاول القديس أوغسطين في العصر الوسيط من خلال كتابه"مدينة الأرض ومدينة السماء" تناول القضايا الإجتماعية عبر تأمل فلسفي خاص للحياة و المجتمع وفق التعاليم المسيحية. وفي العالم الإسلامي نجد الفارابي وابن خلدون قد حاولا صياغة التصورات الأولى للمدينة وأشكال الحكم والتأسيس...(انظر تصور ابن خلدون/درس التاريخ). ويمكن اعتبار تحليلات هيجل للمجتمعات الأوربية خاصة المجتمع الألماني في أواخر القرن 18 وبداية19 نموذجا فلسفيا حيا للتأمل الفلسفي للواقع الاجتماعي خاصة في كتابيه:"فلسفة الحق" و"فينومينولوجيا الروح"،تلك التأملات هي بمثابة الإرهاصات الأولى للتصور الدياليكتيكي للحياة الإجتماعية.
لكن كل تلك التصورات الفلسفية تميزت بغياب المنهج العلمي وحضور التأمل و التجريد وكذا أحكام القيمة والمواقف الأخلاقية...هذا تحديدا ما حاول علماء الإجتماع منذ بداية القرن 19 تفاديه للحصول على حقائق موضوعية،خاصة منذ سان سيمون الذي وضع مصطلح"الفيزيولوجيا الإجتماعية"باعتباره العلم الذي يدرس الوقائع الإجتماعية والوظائف المختلفة للمجتمع كما تدرس الفيزيولوجيا وظائف الأعضاء الحية.
ويرجع الفضل إلى الفرنسي أوكست كونت في نحت مصطلح"السوسيولوجيا la sociologieوالذي دعا إلى دراسة الظواهر الإجتماعية بأساليب وضعية علمية لتحقيق استقلال هذه الظواهر عن الفلسفة كما حصل في علم الفلك والفيزياء مع عصر النهضة؛هكذا تطورت الدراسات السوسيولوجية ، خاصة بظهور مدارس كالماركسية ومختلف امتداداتها وتطور الوضعية مع رائد عالم الإجتماع إميل دوركايم وكذا مارسيل موس ثم مع تارد وفيبر و ستراوس ...
*الظواهر التاريخية:سيطرت التفسيرات الغيبية الأسطورية والميتافيزيقية مدة طويلة قبل أن يشق التاريخ طريقه نحو الفهم العلمي بعيدا عن القوى الغيبية التي كان يعتقد أنها تتحكم في حركة التاريخ وأحداثه،وقد استحق هيرودوت لقب"أب التاريخ"لما بذله من جهد في فحص الأخبار بالعقل وحده،لكن يبقى كل من المؤرخ اليوناني تيوكديت والعلامة ابن خلدون الفاعلين الحقيقيين والوحيدين في إضفاء الطابع العلمي على التاريخ،ولم تسجل أي دراسات ذات قيمة إلى حدودالقرن19 حيث تعتبر الدراسات الماركسية ذات التصور المادي للتاريخ،والذي يقوم على أساس ربط الأحداث بأساسها الإقتصادي والاجتماعي من أهم المقاربات العلمية للأحداث التاريخية إلى جانب المدرسة الوثائقية التي سعت إلى تقريب التاريخ لدقة وموضوعية العلوم الطبيعية مع كل من لانغلو وسينيوبوس...
2- مشكلة العلوم الإنسانية:
إن مصطلح"العلوم الإنسانية" كما نستعمله اليوم لم يظهر كما رأينا إلا في القرن19، ذلك أن النظر إلى الإنسان كموضوع دراسة يشتمل على بداية ونهاية القوانين المفسرة له لم يتحقق إلا بعد أن قطع الفكر في أوربا مع السيطرة اللاهوتية على الإنسان و الطبيعة-صيغ مفهوم "علم الإنسان"science de l’homme بهذا المعنى سنة 1813 من طرف سان سيمون saint simon.
لكن بمجرد تأسيس فكرة العلوم الموضوعية للإنسان وظهرت العلوم الإنسانية حتى طرح معها مشكل الوضع الابستيمولوجي le statut epistémologique لهذه العلوم،ويتجلى هذا المشكل في:
- عدم تطابق اللفظ وما يدل عليه،فعبارة العلوم الإنسانية غير دقيقة لأن الحد الأول"العلوم" ليس كافيا على ما يبدو إذ تدخل في دراسة الظاهرة الإنسانية المقاربات الفلسفية والدينية والفنية والأخلاقية،كما أن الحد الثاني"إنسانية"لا يشمل كل ما يتصل بالإنسان،فالطب ليس علما إنسانيا ومع ذلك فهو يهتم بدراسة الإنسان.
- العلوم الانسانية ترادف في كثير من المؤلفات الفلسفية والعلمية والادبية عبارات مثل:العلوم العقليةأو علوم الذهن كذلك نجد العلوم الاخلاقية...في مقابل علوم الطبيعة،وبذلك نكتشف التقابل بين العلوم الانسانية والعلوم التجريبية والرياضية،وياخذ هذا التقابل شكل امتياز ابستيمولوجي للثانية باعتبار المنهج والنتائج.
هذه الترادفات والتقابلات تؤدي بنا الى طرح السؤال التالي: هل العلوم الانسانية علوم ؟
-إذا كان المنهج التجريبي هو معيار الموضوعية في العلوم الحقة، فإن دراسة الظواهر الإنسانية دراسة موضوعية يعني ضرورة تطبيق هذا المنهج فيها.هكذا اعتبرت هذه الضواهر "أشياء أو وقائع خارجية" مستقلة عن ذات الباحث، لكن محاولات دراسة الإنسان في هذا الإطار اصطدمت بكثير من الصعوبات أهمها كون الظاهرة الإنسانية مختلفة عن الظواهر الطبيعية لأن الإنسان ذات تتميز بالوعي والإرادة، أفعاله لا تخضع لتكرار حتمي أو اطراد...،كذلك كيف يكون الإنسان ذاتا تنتج المعرفة وموضوعا لها في نفس الآن؟ كيف يمكن التزام الحياد من طرف الباحث وهو يدرس وقائع - قد - تنطبق عليه؟ وكيف يمكن تأكيد مشروعيتها العلمية إزاء ذلك؟
وهل يمكن للنظريات في العلوم الإنسانية أن تكتفي بالفهم كمنهجية تأويلية تتأسس على المعرفة البديهية المباشرة أي كمنهج يقوم على استخلاص المعاني والدلالات من التجارب المباشرة أم تتجاوزه إلى التفسير باعتباره كشفا موضوعيا عن العلاقات السببية بين الوقائع الإنسانية أي منهجا يحدد القوانين التي تحكم هذه الظاهرة؟
هذا يضعنا أمام سؤال النموذج العلمي المناسب لدراسة الظواهر الإنسانية،حيث تواجهنا الصعوبات المنهجية والإبستيمولوجية التي يطرحها اعتماد النموذج التجريبي في دراسة الفعل الإنساني.***

*الإشكال الأول: الموضوعية في العلوم الإنسانية.
I. -البناء الإشكالي: هل يمكن تأسيس معرفة موضوعية في العلوم الإنسانية،علما أن الإنسان هنا يمثل ثنائية متناقضة:فهو الذات العارفة وهو في نفس الآن موضوع المعرفة؟
II. التصورات الفلسفية
1-صعوبة تحقيق الموضوعية في دراسة الظاهرة الإنسانية:
يبين لوسيان غولدمان أن معرفة الإنسان والمجتمع يمكن أن تكون موضوعية شفافة بشرط انتفاء الصراع الطبقي والنزاع الإيديولوجي الذي لا يؤثر فقط على النتائج التي يتوصل إليها الباحث فيقوم بتأويلها تأويلا خاصا تحت تأثير الطبقة التي ينتمي إليها، بل إن هذا التأثير يكون على البحث ذاته و يتجلى ذلك في اختيار العينة المدروسة ونوع الأسئلة المطروحة وطريقة تنظيم الاستمارة le questionnaire في بحث اجتماعي...
بهذا يؤكد غولدمان صعوبة تخلص الباحث-الذات العارفة- من تأثيرات مختلفة المصدر على دراسته، إذ يظل الباحث سجين الأحكام القبلية بشكل واع أو غير واع عكس الباحث في العلوم الطبيعية التي تتميز باستقلالية الذات عن الموضوع، ويقول في هذا الصدد: "لا يكفي في العلوم الإنسانية أن نضع الحقائق المكتسبة موضع شك أو ننفتح انفتاحا كليا على الوقائع كما هي، لأن الباحث يتصدى في الغالب للوقائع مزودا بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة لاواعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي."(الاطلاع على النص ص 84).
إن صعوبة تجاوز/تقويض مركزية الذات أي الفصل بين الذات والموضوع يشكل عائقا أمام دراسة وفهم موضوعي للظاهرة الإنسانية كأشياء خارجية مستقلة عن ذات الباحث.
هذا التصور سبق وأن أكده كارل ماركس، حيث يبين أن المجتمعات التي بها تفاوت طبقي عادة ما يظهر فيها صراع طبقي على مستوى العلاقات الإجتماعية والسياسية والفلسفية والفنية...الشئ الذي يجعل من اختلاف التصورات والمفاهيم والأفكار عائقا يحول دون دراسة الظواهر الإنسانية دراسة موضوعية وينتج عن ذلك أن "...تحل محل الأبحاث العلمية غير المفروضة، محاباة مدافعة، متحاملة، واسترضائية..."
إن وضعية العلوم الإنسان وحدها لازالت موضع إشكال، حيث تكون الواقعة ذاتا وموضوعا في آن واحد في حين أن شرط تحقيق العلمية هو حذف تأثير الذات أو كما يسميها العالم النفسي جون بياجي "عملية إزاحة التمركز الذاتي"(الاطلاع على نص خارجي لبياجي مرفق بدراسة تحليلية).
وتؤكد رونيه بوفريس(استاذة فلسفة) انه رغم طموح العلوم الإنسانية تحقيق الموضوعية بتطبيقها النموذج التجريبي في دراستها للظاهرة الإنسانية، لم تتمكن من ذلك لأنها ظلت عاجزة عن تحقيق شرط الموضوعية لأسباب تتعلق بطبيعة الظاهرة المدروسة ذاتها فهي :
- متغيرة باستمرار ونسبية : تتميز أساسا بالحركية و التحول المستمر كلما تدخلت عوامل جديدة او باختلاف الزمان والمكان، إن الإنسان ظاهرة زمانية بمعنى انها تحدث في الزمان وليست ثابتة على حال، فوعيه في صيرورة،يختلف في مرحلة النضج عن مرحلة المراهقة...
- معقدة : ظاهرة مركبة تتداخل العديد من العوامل في تحديدها ،فهي غير بسيطة،مثلا للكشف عن أسباب المرض النفسي لابد من التركيز على العوامل الاجتماعية والاقتصادية والتربوية...وهذا التعقد يطرح صعوبات في وجه تعليل الظاهرة وتحديد العوامل التي تتحكم في مسارها.
- واعية : إنها بخلاف الظاهرة الطبيعية التي تتميز بكونها مادية لها وجود موضوعي مستقل عن الذات الباحثة و الدارسة،بحيث يمكن معاملتها كشئ يخضع لقوانين ثابتة...،فهي – الظاهرة الإنسانية- تتميز بالوعي الذي يؤثر فيها في شكل إرادة أو غاية ، إن تدخل الوعي يحول دون تحقيق الموضوعية لأنه لا يسمح لنا معاملته كشئ.

2- إمكانية تحقيق الموضوعية في العلوم الإنسانية:
إن دراسة الظاهرة الإنسانية قادرة على تحقيق الموضوعية أي التوصل إلى حقائق وقوانين كما الحال في العلوم الطبيعية وذلك عن طريق تطبيق المنهج التجريبي، ويمثل هذا الموقف رواد المدرسة السلوكية في علم النفس خاصة جون واطسون، وفي علم الإجتماع المدرسة الوضعية الفرنسية مع أوكست كونت، وفي التاريخ المدرسة الوثائقية مع لانغلوا وسنيوبوس بالخصوص. كل هؤلاء يعتبرون أن الحقائق التي يتم التوصل إليها في ميدان الظواهر الإنسانية تستحق أن تسمى علما شرط التزام العالم الحياد.
- يؤكد إميل دوركايم ( مؤسس لعلم الاجتماع الحديث 1917-1858) على ضرورة اعتبار الظواهر الاجتماعية كأشياء لأنها تتميز بما يلي:
- خارجة عن الأفراد وقسرية : أي مستقلة عن الوعي الفردي بحيث تبدو وكأنها لاشعورية ،بحيث لا تنسب إلى الفرد الذات بل إلى المجموع كاللغة مثلا فهي ليست فعلا فرديا يمارسه الفرد الواحد باختياره ، بل إنها مجموعة من القواعد الملزمة للجميع ،كذلك الشأن في التقاليد والأعراف ،فهي تحمل طابع الإكراه إما بشكل مادي مباشر أو بشكل غير مباشر(العقاب الفعلي ،النبذ ،التحقير ، السخرية...)
ومنه ضرورة دراسة الظواهر الاجتماعية كأشياء ، لأنها سابقة في وجودها على الأفراد ،وهي تنبع من المجتمع. أي أن المجتمع هو الذي يؤسسها و ينظمها.
ويتم تحويل النتائج التي يتم التوصل إليها لأرقام وكميات بلغة إحصائية مثلا ظاهرة الانتحار ليست ظاهرة فردية و نفسية محضة، بل اجتماعية لأن نسبة المنتحرين تزداد في وضعية معينة بشكل كمي.
أيضا تؤكد المدرسة السلوكية في علم النفس أنه يمكن تحقيق الموضوعية في دراسة السلوك الإنساني، باعتبار أن هذا الأخير ظاهرة قابلة للملاحظة والتجريب و للقياس والتكميم،لأنه عبارة عن نتيجة ثابتة للعلاقة : مثير←استجابة ...

الإشكال الثاني : وظيفة النظرية في العلوم الإنسانية :
I. البناء الإشكالي :
كيف تتحدد وظيفة النظرية العلمية في دراسة الظواهر الإنسانية، هل تقتصر على فهمها كما هي باعتبارها واقعة تدل على نفسها أم يجب تفسيرها سببيا أي الوقوف على العلاقات الثابتة بين الحوادث الإنسانية ؟
II. التصورات الفلسفية
1 – وظيفة النظرية العلمية هي الفهم :
يؤكد هذا التصور على ضرورة اكتفاء النظرية في العلوم الإنسانية على وظيفة الفهم واعتماد منهج الفهم أو المنهج الذاتيla méthode compréhensive و يرتبط هذا التصور تاريخيا وبقوة بالفيلسوف والمؤرخ الألماني وليام دلتاي w.dilthey (1833/1911) الذي تأثر به الفيلسوف الألماني ماكس فيبرm.weber .
مفاد هذا التصور أن لابد من الرجوع إلى الدلالات المدركة من طرف الأفراد و الجماعات التي تنتج سلوكات و أفعال اجتماعية وحضارية وثقافية وفق تلك الدلالات. ويمكن تلخيص المبادئ الأساسية للمنهج الفهمي أو الذاتي كالأتي :
إن الظاهرة الإنسانية ذاتية لا تنفصل عن الوعي و الشعور، وبالتالي تختلف اختلافا انطولوجيا عن الظواهر المادية القابلة للقياس. كذلك لايصح تحليل الظاهرة الإنسانية و تفسيرها بشكل ميكانيكي وفق مبدأ السببية، وهي بذلك تختلف ابستمولوجيا و منهجيا عن العلوم الطبيعية.
لكل هذه الاعتبارات يؤكد دلتاي و فيبر ضرورة الإقتصار على الفهم فقط أي فهم المعاني والدلالات التي تشكل عند كل فرد نظرة خاصة للكون، ومن خلال هذه النظرة/الدلالات ينتج الأفراد سلوكهم و أفعالهم في اتجاه أهداف وغايات معينة، وهي بذلك غير قابلة للتفسير والقياس وفي هذا الصدد يقول دلتاي: "الطبيعة نفسرها و ظواهر النفس نفهمها ... فالفهم هو جهاز العلوم الإنسانية." فنحن لن نعرف الظواهر الإنسانية إلا بالمرور بنفس التجربة النفسية المعاشة من طرف الأفراد قصد إدراك الدلالات التي يضفونها على سلوكهم و أفعالهم و أهدافهم.
لا يهمنا إذن في المنهج الذاتي/ الفهمي الأنظمة الموضوعية والمؤسسات والمحددات المادية والإقتصادية بقدر ما يهمنا ما تعنيه تلك الأنظمة والمؤسسات عند الأفراد .
أيضا يؤكد السوسيولوجي الفرنسي جول مونروjules monnrot أهمية وظيفة الفهم في استخلاص المعاني والدلالات من الخبرات الوجودية المباشرة، لأن الفهم هو بداهة مباشرة لا تحتاج لتبرير أو تعليل حدوث الظاهرة بافتراض ظاهرة أخرى،وكل محاولة لتأسيس البداهة على أساس الاستقراء هي محاولة فاشلة ستؤدي إلى تقويضها(النص ص 91).
يلغي هذا التصور الشروط الموضوعية تماما حيث تدخل الذات الدارسة في علاقة جدلية مع الظاهرة المدروسة وهو ما يتم الإعتراض عليه تماما مع أنصار التصور الموضوعي الذين يؤكدون على ضرورة تفسير الظاهرة الإنسانية وضبط العلاقات الثابتة بين مكوناتها.
2- وظيفة النظرية العلمية هي التفسير :
إن التأكيد على وظيفة التفسير يتأسس على ضرورة اعتبار الظواهر الإنسانية كشئ أي كموضوع كما هو الشأن بالنسبة للظواهر الطبيعية، و وظيفة التفسير ترتكز على مبدأ السببية و مبدأ الحتمية، لأنها تكشف عن العلاقات الثابتة بين الظواهر أي تحدد القانون الذي يحكمها.
لكن كيف يمكن لوظيفة التفسير أثناء دراسة الظاهرة الإنسانية تحقيق نفس النجاح و الأهمية التي تحققها في العلوم الطبيعية؟
يدعو المتأثرون بالنزعة التجريبية إلى التفسير السببي بدلا من الفهم لأن الظاهرة الإنسانية ظاهرة وضعية قابلة للملاحظة و التجريب و للقياس، حيث يقول دوركايم: " لغة العلم هي لغة واحدة سواء في الطبيعة أو في الظواهر الإنسانية،لأن الفكر العلمي ليس له إلا طريقة واحدة، وسبيل العلم هي الملاحظة والتجربة وتحديد العلل والبحث عن القوانين." وهو ما سبق أن أكده كونت بعبارته: "القوانين الطبيعية تحدد تطور الجنس البشري مثلما يحدد قانون الطبيعة سقوط الحجر."
*بالنسبة لعلم الاجتماع : يؤكد رواد المدرسة الوضعية الفرنسية (كونت ،دوركايم ، سان سيمون...) أن وظيفة النظرية في العلوم الإنسانية هي الكشف عن العلاقات الثابتة بين الوقائع الاجتماعية موضوع الدراسة ، مثلا قانون الإنتحار الذي توصل إليه دوركايم، وكان منطلق البحث هو انتشار هذه الظاهرة في المجتمع الأوروبي في نهاية القرن 19، فحاول تفسيرها بعد أن حدد تعريف لها وهو كالآتي: "كل حالات الموت التي تكون نتيجة مباشرة أو غير مباشرة لفعل سلبي أو إيجابي قام بالمنتحر نفسه وهو يعلم أنه سيؤدي لهذه النتيجة."
بعد بحث جاد اعتمد فيه دوركايم على كل التقنيات التي يوفرها المنهجين التجريبي والرياضي قام بتصنيف أنواع الإنتحار بين الذي ينتج عن المرض العقلي والذي ينتج عن أسباب اجتماعية...وانتهى إلى الربط بشكل قوي بين الانتحار وبين ضعف الروابط الأسرية...
*بالنسبة لعلم النفس :حاول أصحاب النزعة الوضعية في السيكولوجيا التوصل إلى قوانين تفسيرية تقيم علاقة ثابتة بين ظاهرتين أو أكثر على المستوى النفسي أو بين ظواهر نفسية و أخرى غير نفسية ،مثلا قانون العلم الفرنسي بييرون piéron حول علاقة الزمن بالنسيان ،فهذا الأخير يزداد بشكل يتناسب مع لوغاريتم الزمن بمعنى أن عدد الكلمات التي ينساها الإنسان لا يتناسب مع الامتداد الخطي للزمن.
يؤكد بدوره الفيلسوف الفرنسي جيل غاستون غرانجيg.g.granger على الوظيفة التفسيرية للنظرية في العلوم الإنسانية، لأن الفهم يقتصر على نقل صورة حدسية قائمة على الإحساس و التقدير الشخصي ... لهذا لابد من التفسير الموضوعي للفعل الإنساني بدلا من التأويل الذاتي ،الذي هو بمثابة عائق ابستيمولوجي أمام فعالية العقل في العلوم الإنسانية .
إن الحديث عن دور النظرية العلمية في العلوم الإنسانية لا يستقيم دون تحديد النموذج العلمي أي الإطار النظري المرجعي الذي تعتمده في دراسة موضوعاتها ، فما هو النموذج المناسب للاشتغال على الظواهر الإنسانية والذي يحقق لها المشروعية العلمية، هل هو النموذج التجريبي والرياضي أم النموذج القائم على الأطروحة الإنسية la thèse humaniste والذي يحافظ على خصوصية الإنسان ؟

الإشكال الثالث : النموذج العلمي في العلوم الإنسانية :
I. البناء الإشكالي:
ما هو النموذج المناسب للاشتغال على الظواهر الظواهر الإنسانية والذي يحقق لها المشروعية العلمية؟ هل هو النموذج التجريبي-الرياضي أم أن الأمر يتعلق بنموذج مخصوص تنفرد به العلوم الإنسانية، بحيث يكون متوافقا مع خصوصية موضوعها؟
II. التصورات الفلسفية
1- النموذج العلمي المناسب هو النموذج التجريبي الرياضي :
سبق أن تعرفنا في المحور السابق على مختلف التصورات التي تؤكد على أن وظيفة النظرية في العلوم الإنسانية هي ضبط العلاقات القائمة بين الظواهر... وطبعا تمت الإشارة إلى أن هذه التصورات تتبنى النزعة العلمية التجريبية في منطلقاتها و وسائلها واستخلاص نتائجها.
لقد اعتمد سان سيمون الفيزيولوجيا كنموذج علمي في دراساته السوسيولوجية ، فإذا كانت الفيزيولوجيا تدرس وظائف الأعضاء و الأنسجة لدى الكائن الحي فإن السوسيولوجيا عليها أن تدرس وظائف المجتمع ،وعلى الباحث التزام بالمنهج المتبع في العلوم الطبيعية القائم على الملاحظة الخارجية...هذا التوجه نجده لدى المدرسة الوظيفية الأمريكية المعاصرة التي ترى أن النشاط الاجتماعي يرجع إلى مجموعات (سياسية اقتصادية أخلاقية...) تضبطها علاقات وظيفية معينة و أن أي تغير في إحداها يسبب تغيرا في المجموعات الأخرى ،مثل الأجهزة المختلفة التي تشكل العضوية الحية.
أيضا بالنسبة للظاهرة النفسية اعتمد رائد السلوكية بافلوف و النموذج العلمي التجريبي باعتبار أن الجهاز العصبي المركزي هو المسؤول عن العمليات العقلية العليا وبالتالي فالإنسان ككل نظام آخر في الطبيعة تحكمه القوانين الطبيعية المشتركة بين كل ظواهرها.
2- النموذج العلمي المناسب هو الرجوع إلى الذات :
تعرض التصور الوضعي لانتقادات عديدة من طرف أنصار النزعة الإنسية ، من منطلق أنه لم يحقق فعليا نتائج في دراسة الظاهرة الإنسانية بمستوى النتائج المتوصل إليها في العلوم الطبيعية ، أيضا ينكر تداخل الذات و الموضوع وهو ما يمكن الاعتراض عليه بكون الباحث هو نفسه ينتمي إلى نفس طبيعة الظاهرة التي يبحث فيها (الإنسان ) بحيث يصعب الانفصال عنها و الالتزام بالحياد فهو قد يتأثر بتوجه سياسي ينعكس على خطواته ونتائجه ومفاهيمه الإجرائية ، كما قد يتأثر بمكانه أو زمانه الثقافي والحضاري أو بموقعه الاقتصادي و الاجتماعي....
أيضا يرفض المعترضون على اعتماد النماذج العلمية السائدة في العلوم الطبيعية التعامل مع الإنسان مثل الظواهر المادية التي يمكن عزل عناصرها عن بعضها البعض ،فلا يمكن مثلا عزل ماهو غريزي في الإنسان عما هو مكتسب...
- يؤكد الأنثربولوجيان طولرا و وارنيي أن الظواهر الإنسانية أكثر تعقيدا بها متغيرة نسبية خفية واعية...بمعنى أن الواقع الذي تدرسه العلوم الإنسانية هو واقع حي دينامي و أقل انتظاما من عالم الطبيعة ،الشئ الذي يقتضي نموذجا علميا مغايرا وملائما له ، كما لا ينبغي اعتبار تداخل الذات والموضوع أمرا سلبيا بل هو مؤشر على ضرورة الانتباه لخصوصية الظاهرة المدروسة وعلى ضرورة ملاءمة المنهج التجريبي معها .
كذلك يؤكد التصور الفلسفي الفينومينولوجي المعاصر على أن الذات الواعية وحدها مصدر المعرفة ، لأنها تتحدد أساسا بالوعي و القصدية والرغبة والاختيار... ولا يمكن اختصارها في خبرات أو وقائع محددة وتفسيرها بقوانين موضوعية ثابتة ، إن الذات هي المصدر الوحيد للمعرفة ولا يمكنها أن تختزل لتصبح موضوعا لها ،لهذا يرفض ميرلوبونتي اعتماد النموذج التجريبي في مقاربة الظاهرة الإنسانية لأنه يتميز بالنزعة التجزيئية التي تقصي الذات.
إضافة إلى ميرلوبونتي حاول سارتر تجاوز النظرة التشييئية/ الوضعية للإنسان (مفهوم الشخص-المحور الثالث).
إن رفض النزعة الوضعية/التجريبية في العلوم الإنسانية ليس معناه نفي الموضوعية بل إن نفي الموضوعية ينبثق من هم ابستيمولوجي يفترض عدم وجودها اليوم أو غدا لكن لا يفترض استحالتها . بينما رفض الموضوعية هم انطولوجي أخلاقي ينبثق من الشعور بخطورة المعرفة الموضوعية في الظاهرة الإنسانية. إلا أن هذا الهم يبقى مغلوطا إذ كان يعني أن كل موضوعية هي بالضرورة سلبية، فالموضوعية لا يمكن إلا أن تكون ايجابية في العلوم الإنسانية لأنها توضح – وقد تفضح الممارسات الخفية سياسية –اجتماعية –أخلاقية...
وكأنها تتجاوب مع قولة غرامشي ( فيلسوف ايطالي -1891/1937) المشهورة " الحقيقة دائما ثورية ".
المجزوءةالثالثة: السياسة
مدخل عام:
تنتمي مجزوءة السياسة إلى حقل إشكالي، تأسس داخل الفكر الفلسفي منذ الإغريق، باعتباره المبحث العقلي الأكثر اتصالا بالواقع الاجتماعي- التاريخي وما يطرحه هذا الواقع من أسئلة حول الشكل الأمثل لتنظيم الشأن العام داخل المجتمع. بل إن التفكير في مفهوم السياسة شكل مناسبة للتفكير في ماهية الإنسان ذاتها ومكانته الوجودية بين باقي الكائنات. ولعل الأصل الاشتقاقي للمفهوم ذاته يحيل على الأهمية الوجودية والاجتماعية لهذا الحقل الإشكالي، فلفظة politique مشتقة من الكلمة اليونانية polis / المدينة، التي دلت، في محاورات أفلاطون وكتب أرسطو، على ذلك الكيان الاجتماعي المنظم الذي تتكامل وظائف أعضائه من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي، هؤلاء الأعضاء الذين ينبغي أن تتأسس علاقاتهم على فضيلة العدالة، وأن تتوجه حياتهم صوب تحقيق مثال الخير الأسمى، والسعادة الأكمل. لذلك اعتبر أرسطو من يعيش خارج المدينة إما حيوانا متوحشا(policé في الفرنسية تعني متمدن ومتحضر) أو إله مكتفيا بذاته.
غير أن التحولات التاريخية التي عرفتها المجتمعات البشرية، على مستوى أشكال تنظيمها وعلاقات القوة التي تعتمل بين الأطراف المكونة لها والبنيات المؤسسية السلطوية التي تتجسد فيها هذه العلاقات( التنظيم القبلي، الدولة الإلهية، الإمبراطوريات، الملكيات المطلق، الدولة-الأمة الحديثة، الدولة الثالثية..)، كل هذه التحولات قد طرحت على الفكر السياسي أسئلة متجددة، كانت مناسبة لصياغة نظريات سياسية كل واحدة منها شكلت مرآة لعصرها وإجابة على مشكلاته. كما أن هذه النظريات تجاوزت حقل الفلسفة ذاته إلى حقل العلوم الإنسانية(علم الاجتماع السياسي مثلا).
إننا إذن أمام حقل متشابك الأبعاد، وبالتالي متشابك الإشكالات التي يطرحها. فمساءلة الشأن السياسي تقتضي التساؤل أولا عن طبيعة ووظائف مؤسسة الدولة بالنظر إلى أنها أصبحت، بعد اندثار الأشكال القبلية التقليدية للسلطة، الشكل المعمم لاحتكار هذه السلطة، كما تقتضي التساؤل عن أسس مشروعية الدولة التي تجعلها مقبولة بل وضرورية بالنسبة لأعضاء المجتمع(الوحدة الأولى). وبما أن كل ممارسة سياسية تحتكم إلى معايير وقواعد تؤطرها وتوجهها ، فإن مساءلة الشأن السياسي تقتضي التساؤل، أيضا، عن علاقة الممارسات والوقائع السياسية بالمعايير والمبادئ التي تؤطرها، وهو ما يدفعنا إلى طرح إشكالات ذات طبيعة قيمية ترتكز على مفاهيم مثل الحق والعدالة(الوحدة الثانية).

الوحدة الأولى: الدولة
- مفاهيم الوحدة:
* مفهوم الدولة Etat:
يدل على واقعين متمايزين:
1- معنى أشمل: مجموع الأفراد المستقرون في مجال ترابي محدد، و المنضوون تحت نفس السلطة السياسية، إنها شعب خاضع لسيادة souverain ( الماسك الشرعي لزمام السلطة)، وقد تتمثل هذه السيادة في الشعب نفسه كما في حالة الجمهورية.
2- معنى أدق: الهيئة الحاكمة لمجتمع ما، إنها النظام السياسي الذي يحتكر السلطة، والذي يتشكل من نسيج من المؤسسات المتخصصة( أهمها الحكومة) الساهرة على تنظيم الحياة الاجتماعية في جميع مستوياتها، فوق مجال جغرافي-تاريخي معطى.
* مفهوم الحقDroit:يعرفه أندريه لالاند باعتباره "ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية (أو قانونية)، يعني ما هو مشروع و قانوني في مقابل ما هو فعلي وواقعي".
فالحق إذن قيمة معيارية يتحدد بالنظر إليها ما ينبغي أن تكون عليه الأفعال البشرية والممارسات والعلاقات الاجتماعية، في مقابل الواقع الفعلي لهذه الممارسات والعلاقات، الذي لا يتطابق بالضرورة مع مقتضيات الحق. غير أن هذا التمييز بين المستوى المعياري المثالي والمستوى الفعلي الواقعي، يجعلنا نميز بين معنيين للحق:
1- الحق الطبيعي: المبادئ والمثل العادلة المعطاة طبيعيا، والمفطورة في العقل البشري، وتشكل إلزاما وواجبا أخلاقيا، ومعيارا كونيا ينبغي أن يتطابق معه كل قانون وضعي وكل ممارسة فعلية، وهذا التطابق متوقف على الإرادة الذاتية الحرة للإنسان.
2- الحق الوضعي: مجموع القواعد والقوانين المشرعة من طرف سلطة ذات سيادة، في إطار سياق اجتماعي- تاريخي معين، من أجل تنظيم الحياة الاجتماعية، من خلال تحديد ما ينبغي أن يكون(الإلزام) و وما يمكن أن يكون(الإباحة) و ملا ينبغي أن يكون(الممنوع). إلا أن هذه القوانين لا تكتسب قوة الواقع إلا إذا وجدت مؤسسات عمومية تتمتع بالسلطة وتستطيع بالتالي أن تضمن تطبيقها والسهر على مراعاتها. الحق هنا مرادف للقانون.
* مفهوم السلطة ويتضمن عدة دلالات متقاربة:
- pouvoir: كيان مؤسسي، داخل المجتمع، يمتلك سلطة( بهذا المعنى نتحدث عن السلط الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية).
- autorité: الحق في حكم الآخرين وإخضاعهم والقدرة على ذلك.
- القوة force: القدرة المادية، الإكراه المادي.
* مفهوم المشروعيةlégitimité تطابق السلطة أو النظام السياسي مع مبادئ الحق الطبيعي والعدالة كمعيار متعال عن أي تشريع وضعي. ويعرفها S.Cotta "تطابق السلطة مع الطريقة التي تفكر بها أمة ما... وتطابق القوانين مع إرادة الشعب".
* الشرعية légalité : تطابق ممارسة السلطة مع نصوص القوانين الموضوعة.
ومن ثمة قد يكون الحكم شرعيا إذا كان يحترم القوانين الموضوعة، ولكن تلك القوانين قد لا تكون هي ذاتها مشروعة لأنها غير نابعة من إرادة الشعب و لا تعبر عن الحق والعدالة. ولتدعيم التمييز بين "الشرعية" و"المشروعية"، يؤكد N.Bobbio أن مفهوم المشروعية يطرح حين نكون بصدد تبرير الحق في السلطة، بينما يطرح مفهوم الشرعية حين نكون بصدد تبرير ممارسة السلطة. وكلاهما تتعلقان بقبول المحكومين بالسلطة الحاكمة ورضاهم عن ممارساتها.
- تقديم:
إذا كان المجتمع إطارا ضروريا لحياة المجتمعات البشرية، فإن تنظيمه ليس بالأمر التلقائي، بل يفترض وجود قواعد تضمن سيره وتكون ملزمة للأفراد. هذه القواعد هي في نفس الآن ذات طبيعة معيارية( حقوق، مبادئ، قوانين) ومؤسسية (هيئات تسهر على تطبيق تلك القوانين)، وهو ما يلخصه مفهوم السلطة السياسية. هذه السلطة التي يمارسها كيان مؤسسي متميز عن الجسم الاجتماعي ككل، ومتموقع فوق الأفراد والمجموعات، ويدعي التكفل بوظيفة البث في خلافاتهم والتوفيق بين تناقضاتهم ورعاية مصلحتهم العامة. هذا الكيان هو الدولة، إنها تقدم نفسها عموما كأداة ضرورية للنظام الاجتماعي، ولكي تكون هذه الأداة فعالة، لا بد لها، بكيفية أو بأخرى، من الاعتماد على القوة والإكراه.

يقول Max Weber :" إذا لم يكن هنالك غير بنيات اجتماعية يغيب فيها أي شكل من العنف ، فإن مفهوم الدولة سيختفي إذن، ولن يبقى غير ما نسميه بالمعنى الحرفي للكلمة:"فوضى"anarchie. من البداهة أن العنف ليس هو الوسيلة الطبيعية الوحيد للدولة- هذا مما لا شك فيه- ولكنه وسيلتها الخصوصية. وفي عصرنا الحاضر تعتبر العلاقة بين الدولة والعنف حميمية على نو خاص.منذ القدم اتخذت التجمعات السياسية الأكثر تنوعا، من العنف المادي الوسيلة الطبيعية للسلطة، بدءا من التجمعات القرابية. لكن بخلاف ذلك يجب تصور الدولة المعاصرة، باعتبارها التجمع البشري القائم داخل حدود ترابية معينة، الذي يطالب، وبنجاح، باحتكار العنف المادي المشروع لصالحه. إن ما يشكل ميسما خاصا بعصرنا، هو أنه لا يمنح لكل التجمعات الأخرى(غير الدولة) ولا للأفراد، الحق في استعمال العنف، إلا في حالة ما إذا سمحت الدولة بذلك. إن الدولة هي المصدر الوحيد للحق في استعمال العنف" "Le savant et le politique"

فإذا كانت الدولة من جهة، بحكم طبيعتها تتضمن، الإكراه والإلزام لأفراد المجتمع وجماعاته، وإذا كان هذا الشكل من الممارسة السياسية من جهة أخرى، ليس بالمعطى الطبيعي، ولم يكن موجودا منذ الأزل(غيابها في المجتمعات البدائية مثلا P.Clastres"المجتمع ضد الدولة")، فإن أسئلة عديدة تطرح نفسها:
- الإشكال الأول: ما هي أسس مشروعية قيام الأنظمة السياسية؟ ومن أية موارد تستقي الدولة قبول الأفراد بضرورتها؟ وهل تتوافق أسس المشروعية قيام الدولة مع الغايات التي تسعى إلى تحقيقها؟
- الإشكال الثاني: ما طبيعة السلطة السياسية؟ أهي علاقة سيطرة عمودية تتجه من أجهزة ومؤسسات الدولة تجاه المحكومين، أم أنها شبكة من العلاقات الأفقية المحايثة للجسم الاجتماعي ككل؟ وبعبارة أخرى هل سلطة الدولة متعالية عن التفاعلات الاجتماعية، أم أنها محايثة لها؟
- الإشكال الثالث: إذا كانت القدرة على الإكراه وفرض الطاعة مقوما لكل سلطة، فمن أين تستمد الدولة هذه القدرة؟ هل من قوة العنف المادي، أم من قوة الحق والقانون؟

* المحور الأول : مشروعية الدولة وغاياتها
I. إشكال المحور: ما هي أسس مشروعية قيام الأنظمة السياسية؟ ومن أية موارد تستقي الدولة قبول الأفراد بضرورتها؟ وهل تتوافق أسس المشروعية قيام الدولة مع الغايات التي تسعى إلى تحقيقها؟
II. التصورات الفلسفية
1- تصور ماكس فيبر(1846-1920)
ينطلق عالم الاجتماع الألماني، ومؤسس نظرية المشروعية، من الاستدلال التالي:
إذا كانت الدولة تجسد علاقة هيمنة لطرف على آخر، علاقة مبنية بالأساس على "العنف المشروع"، فإنها لا يمكن أن توجد ولا أن تستمر إلا بشرط طاعة المحكومين لها واعترافهم بحقها في السيادة. وهنا يطرح السؤال التالي: في أية شروط يخضع هؤلاء المحكومين؟ وعلى أية تبريرات ووسائل تستند علاقة السيطرة هذه؟
يجيب فيبر بأن هناك ثلاثة مبررات داخلية تبرر السيطرة، ومن ثم ثلاثة أنماط للمشروعية:
أ- المشروعية التقليدية: وترتكز على الاعتقاد بقدسية التقاليد والمعتقدات الضاربة بجذورها في الماضي المشترك للجماعة، حيث تصبح كل سلطة تتأسس عليها سلطة مشروعة. ويمكن أن نقول عن المشروعية التقليدية أنها مشروعية تاريخية، لأنها ترتكز على نفوذ الماضي "المقدس"(يسميها "بقدسية الأمس الأزلي") واعتبار السلطة القائمة في الحاضر، تجسيدا واستمرارية لهذا الماضي.(الأنظمة الثيوقراطية).
ب- المشروعية الكاريزمية: ترتكز على القيمة الرمزية التي يمثلها شخص ما، لدرجة يصبح معها من الصعب التمييز بين القيمة والشخص الذي يجسدها، والذي يتمتع بسحر شخصي يجعله مركز جاذبية لأتباعه ومحط ثقتهم العمياء نظرا لتفرده بصفات خارقة واستثنائية مثل البطولة، سواء كانت واقعية أو وهمية(تجربة ماوتسي تونغ في الصين الشعبية وجمال عبد الناصر في مصر بعد ثورة الضباط الأحرار).
- المشروعية العقلانية: وترتكز كما يقول فيبر، على" الإيمان بصلاحية وضع شرعي وكفاءة إيجابية"، أي أن السلطة المشروعة هي تلك التي تتطابق ممارستها مع القواعد والقوانين الموضوعة و مع المصلحة العامة للمواطنين، بحيث يصبح القائم على السلطة"خادما للدولة" وطاعة السلطة هي طاعة للقواعد والمؤسسات الشرعية لا للأشخاص. وهنا يتماهى مفهوم المشروعية مع مفهوم الشرعية.
تعليق:
لا بد أن نشير إلى أن هذه الأنماط هي عبارة عن تجريدات نموذجية لا تتطابق بالضرورة، تطابقا تاما، مع تجربة واقعية- تاريخية معينة.
كما يمكن أن نختزلها، استنادا على تصنيف ستيرنبنغر، إلى نمطين فقط:
- المشروعية الدينية: وهي التي تريد تجاوز المجتمع المدني، وتستمد عناصرها ومقوماتها من قوى مفارقة للإنسان والمجتمع.
- المشروعية المدنية أو السياسية: وهي كل مشروعية تستمد أسسها من المجتمع المدني، أي من إرادة الشعب واتفاقهم الحر(الاستفتاء، الانتخابات، المصلحة العامة..).

2- تصور أصحاب نظرية "العقد الاجتماعي"
يجد النمط الثالث لدى فيبر والنمط الثاني لدى سترنبنغر جذورهما النظرية في الفلسفة السياسية للقرنين 17 و18 مع نظرية التعاقد، كنظرية سياسية نقدية أسست للثورات الإنجليزية1688 والأمريكية 1776 والفرنسية 1789، و قامت على أنقاض نظرية" الحق/التفويض الإلهي"(النمط الأول لدى فيبر و سترنبنغر) التي سادت في القرون الوسطى كفقه حقوقي مبرر للملكيات المطلقة.
بغض النظر عن الاختلافات الجزئية بين إسهامات فلاسفة العقد الاجتماعي (توماس هوبس، جون لوك، سبينوزا، جان جاك روسو)، فإنهم قد انطلقوا - جميعهم- من فرضية أن الناس عاشوا "حالة طبيعية أولية" قبل أن ينتقلوا إلى الحالة المدنية إثر تأسيسهم ل"لمجتمع المدني" أو الدولة، حيث كانوا يتمتعون في الحالة الأولى بحقوق طبيعية أصلية(الحياة، الحرية، الملكية...) تمثل مبادئ قبلية في العقلrègle de la raison. لكن بما أن هذه الحقوق- وخاصة الحرية- تتسم بكونها فردية ولامحدودة، وبما أن الأفراد لا توجههم فقط مبادئ العقل وإنما أيضا اندفاعات الهوى والشهوة، فلا بد أن تؤول العلاقات فيما بينهم إلى التصادم، بحيث لن يحد من الحرية المطلقة للفرد في إشباع أهواءه إلا القوة الفيزيائية للفرد الآخر، وهكذا ودواليك، مما يجعل حياة كل واحد منهم مهددة في غياب سلطة محايدة ورادعة. يهتدي الأفراد، من ثم، واسترشادا بملكة العقل واتقاء للتهديد الدائم الذي يعيشون في ظله، إلى ضرورة التعاقد فيما بينهم من أجل تأسيس مجتمع مدني تحكمه سلطة سياسية وفق قوانين، من أجل تصحيح اختلالات "حالة الطبيعة"، لكن دون فقدان حقوقهم الطبيعية كليا، بل حفاظا عليها. في إطار هذا "المجتمع المدني" تكون السيادة للكل أي ل"الشعب"، فالقوانين تعبر عن الإرادة العامة لهذا الشعب وعن حقوقهم الطبيعية، والسلطة السياسية تتصرف وفق هذه القوانين. فالشعب –كما يقول روسو- عندما يطيع الدولة، فهو بذلك لا يطيع إلا نفسه، لأن الأفراد لا يصبحون أحرارا حقا إلا بطاعتهم للقوانين، فهدف الدولة إذن هو الحرية.
- استنتاج:
إذا كانت الدولة هكذا منبثقة من تعاقد الشعب، بل إنها طرف في هذا التعاقد وملزمة بشروطه، فإن مشروعية استمرارها واستمرار طاعة المواطنين لسلطتها متوقفة على مدى احترامها لشروط التعاقد الأصلي، وتطابق ممارستها مع القوانين والحقوق، وإلا فإن مقاومة الشعب وثورته ستكون حتمية لا محالة وشرعية تماما، كما أكد جون لوك على امتدد فصل"في انحلال الحكومة" من كتابه"مقالتان في الحكم المدني". والإطاحة بالسلطة ليست رجوعا إلى حالة الطبيعة، لأن المجتمع المدني يظل قائما ما دامت السيادة للشعب. ونستشف هنا أن الغاية تتطابق مع مبررات المشروعية.
3- تصور هيجل
يرفض هيجل فكرة أن الدولة قائمة على تعاقد إرادي واختياري بين الأفراد، لأن هذا ينزع عنها أي طابع ضروري وكلي بالمعنى المنطقي للضرورة والكلية، بل يجعل منها نتيجة عرضية للإرادات والأمزجة الجزئية للأفراد. يلزم عن هذا رفض هيجل للتماهي بين الدولة والمجتمع المدني، كما نجده في النظرية التعاقدية، وإلا فإن وظيفتها آنذاك ستختزل في ضمان الأمن وحماية الملكية والحرية الشخصيتين، بمعنى أن مصلحة الأفراد- ولو بمعناها الجمعي- ستغدو هي الهدف الأسمى الذي على أساسه يجتمعون في إطار الدولة، ومن ثمة سيكون انتماؤهم لها عرضيا تماما.
وبالمقابل، فالطابع الضروري للدولة عند هيجل، يأتي من كونها تجسد " التحقق الفعلي للفكرة الأخلاقية" وللحرية الموضوعية المطلقة، إنها العقل الكلي الكوني وقد تحقق بالفعل فظهر أمام ذاته ووعاها، بعد أن كان ينمو على نحو ضمني ومجرد في الفرد والأسرة والمجتمع المدني. وبالنتيجة فقيام الدولة ليس رهينا بالأفراد، بل إن"الواجب الأسمى بالنسبة للأفراد هو أن يكونوا أعضاء في الدولة"، وما دامت الدولة هي "الروح الموضوعي"، "فليس للفرد في حد ذاته من الموضوعية ولا من الحقيقة ولا من الأخلاق إلا بمقدار ما هو عضو في الدولة"، فهي تحرير للفرد من تمركزه حول ذاته وحول مصلحته الشخصية والارتقاء به من الجزئي الفردي إلى العام والكوني.
ما يمكن أن نستنتجه أن أساس مشروعية قيام الدولة، في "فلسفة الحق" الهيجيلية، يوجد في واقع قيامها ذاته، فهي لا تحتاج إلى تعليل خارجي، وإنما تتميز بالضرورة العقلية والتاريخية المطلقة، فهي غاية في ذاتها. وهنا لا يتحدث هيجل عن دولة تاريخية قائمة بالفعل، وإنما عن الدولة في وجودها المنطقي المثالي. وهذا لا يعني أن أي دولة واقعية كيفما كانت هي تجسيد لهذا المثال، إذ يدين هيجل الدول القائمة على الاستبداد والعبودية، باعتبارها ليست التحقيق الموضوعي للفكرة الأخلاقية المطلقة وللحرية الإنسانية الكونية.
- استنتاج:
إذا ما تأملنا كل من نظرية العقد الاجتماعي، وفلسفة الحق لدى هيجل(1770-1831)، فسنجد أن الطابع المثالي الذي ميز تناولهما لإشكالية مفهوم الدولة، جعلهما يماهيان بين أسس مشروعية الدولة وغاياتها. فبالنسبة لنظرية العقد الاجتماعي، نجد أن الشروط الأصلية للتعاقد(صيانة الحقوق الطبيعية للأفراد)، والتي يمثل احترامها من طرف الدولة أساسا لمشروعية هذه الأخيرة، هي نفسها الغايات التي تعمل الدولة من أجل تحقيقها. وبالنسبة لهيجل، نجد أن أساس مشروعية الدولة هو كونها التحقق الفعلي للفكرة الأخلاقية الكونية، مما يجعلها غاية في ذاتها.
4- التصور الماركسي.
وجهت الماركسية( نظرية ثورية شمولية في الفلسفة والاقتصاد والاجتماع والسياسة أسسها كارل ماركس- 1818/1883و فريدريك إنجلز1820/1895) النقد- من وجهة نظر مادية تاريخية- للتصورات السابقة ، وخاصة فلسفة الحق الهيجلية، التي تعتبر الدولة كيانا سياسيا منفصلا عن المجتمع المدني، يتربع في موقع متعال عن الطبقات الاجتماعية وعن تناقضاتها وصراعاتها، مما يجعله الضامن الأسمى للمصلحة العامة والعليا. لكن الماركسية تفضح الطبيعة الوهمية لهذا التعالي، الناتجة عن وعي أيديولوجي زائف ومقلوب بحقيقة جهاز الدولة، الذي هو في حقيقته الجوهرية أداة سياسية بيد الطبقة المسيطرة(هذه الطبقة بالنسبة للمجتمع الرأسمالي الحديث هي البورجوازية). هذه الأخيرة التي تحاول-من خلال خطابها الأيديولوجي(الإنتاج الفكري، التعليم، العملية الديمقراطية الليبرالية...)- تعزيز التعالي الظاهري لهذا الجهاز حتى تضفي عليه مشروعية الحياد، وبالتالي تضمن إدامة سيطرتها الطبقية.
- استنتاج:
ومن ثمة، فإذا كانت مشروعية الدولة- على مستوى الخطاب الأيديولوجي- تستند إلى كونها ممثلا لمصلحة المجتمع ككل ومحافظا عليها، من خلال إدعاء لعب دور الحكم المحايد بين الأطراف الاجتماعية، والحامي لمصلحة"الأمة" وسيادتها حيال الأطراف الدولية الخارجية،, فإن الغايات الحقيقة للدولة، بحكم طبيعتها الطبقية ذاتها، لا تتطابق مع ادعاءات هذا الخطاب الأيديولوجي. إذ أن الغاية الموجهة للممارسة السياسية للدولة في واقع الأمر، هي ضمان استمرار سيطرة الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج(البورجوازية) على الطبقة التي لا تمتلك غير قوة عملها(الطبقة العاملة).

* المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية
I. إشكال المحور: ما طبيعة السلطة السياسية؟ أهي علاقة سيطرة عمودية تتجه من أجهزة ومؤسسات الدولة تجاه المحكومين، أم أنها شبكة من العلاقات الأفقية المحايثة للجسم الاجتماعي ككل؟ وهل سلطة الدولة متعالية عن التفاعلات الاجتماعية، أم أنها محايثة لها ونابعة منها؟
II. التصورات الفلسفية
1- من هيحل إلى الماركسية: تصور لوي ألتوسير نموذجا (ماركسي فرنسي معاصر -1918/1990)
عمل ألتوسير على تطوير النظرية الماركسية الكلاسيكية في الدولة. فإذا كان فريدريك إنجلز قد عرف الدولة مختزلا إياها، في آخر المطاف، إلى " مجموعة من الرجال المسلحين"، أي أنها عبارة عن جهاز قمعي بيد الطبقة المهيمنة، فإن ألتوسير يعير الانتباه إلى بعد آخر للدولة أغفله الماركسيون الأوائل. إذ أن الدولة كيان مؤسسي يتألف من مجموعتين من الأجهزة: الجهاز القمعي(الحكومة، الإدارة، الجيش، الشرطة، السجن...)، والأجهزة الأيديولوجية( المدرسة، الإعلام، المؤسسات الدينية، العائلة، النقابات والأحزاب، الجمعيات...). الأولى تتميز بكونها واحدة ومنظورة على نحو مباشر، وتنتمي إلى المجال العمومي، في حين أن الثانية متعددة وغير مباشرة وتنتمي غالبا إلى المجال الخاص. بمعنى أن الدولة لا تعتمد فقط على العنف المادي الواضح والمباشر في ممارسة سلطتها، بل إن الإيديولوجيا تقوم بدور أساسي في خلق الانضباط والخضوع لدى الأفراد على نحو لاواع. فالمدرسة مثلا، من خلال مناهجها وبرامجها التربوية والتعليمية، تمرر إلى أذهان المتعلمين خطابا أيديولوجيا مبررا للنظام الرأسمال ومكرسا لقيمه.
- استنتاج :
من خلال التصور الماركسي، سواء في صورته الكلاسيكية أو في تطويره اللاحق مع ألتوسير، نستنتج أنه قد تجاوز التصور الهيجلي للدولة الذي اعتبرها كيانا متعاليا على تفاعلات المجتمع وتناقضاته، إذ هي في الواقع طرف في هذه التناقضات، من حيث خدمتها لمصلحة الطبقة السائدة داخل علاقات الإنتاج الاجتماعية، كما أنها لا تمارس سلطتها اعتمادا على القمع المادي المباشر فقط وإنما تتوسل ب"القمع الأيديولوجي" المتغلغل داخل المجال الخاص لحياة الأفراد. إلا أنه وعلى الرغم من هذا، تبقى سلطة الدولة صادرة بشكل مركزي من أجهزة الدولة المباشرة وغير المباشر، وموجهة بشكل فوقي تجاه الأفراد.
2- تصور ميشيل فوكو(فيلسوف فرنسي معاصر-1926/1984-).
يراجع فوكو التعريفات الكلاسيكية لمفهوم السلطة ، بما فيها التعريف الماركسي. إذ لا يعني بها مجموع الأجهزة والمؤسسات السياسية التي " تمكن من إخضاع المواطنين داخل دولة معينة"، بل لا يعني بها حتى نظام السيطرة الطبقية السارية في الجسم الاجتماعي برمته. ففي كلتا الحالتين تبقى السلطة فعلا مركزيا صادرا، بشكل فوقي وعمودي وبسيط، عن أجهزة الدولة وله مفعول شمولي على جميع مكونات المجتمع. إلا أن المحلل لمفهوم السلطة- بالنسبة لفوكو- عليه أن لا ينطلق من أشكالها المؤسسية المركزية- باعتبارها" بؤرة وحيدة(وأصلية) للسيادة تكون مصدر إشعاع لباقي الأشكال الثانوية التي تتولد عنها"- فالأجهزة"ليست إلا الأشكال التي تنتهي إليها السلطة". وإنما ينبغي الانطلاق من العلاقات التحتية بين القوى الفاعلة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، كل على حدة، هذه العلاقات التي تولد في كل لحظة حالات للسلطة تتغير بتغير موازين القوة واستراتيجيات الصراع. من هنا يمكن القول أن السلطة- بصيغة المفرد – ليست إلا الاسم الذي يطلق على النتيجة العامة لكل حالات السلطة الجزئية/المكروسكوبية الآتية من كل الحقول الاجتماعية، فهي كما يقول فوكو" الإسم الذي نطلقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين"، إلا أن هذا لا يلغي كون هذه السيرورات المتعددة والمتغيرة والمشتتة والمحايثة لكل نقطة من المجتمع، تتبلور في "مؤسسات أجهزة الدولة وصياغة القانون وأشكال الهيمنة الاجتماعية".
- استنتاج :
نستنتج أن السلطة السياسية محايثة لكل نقطة من نقاط الفضاء الاجتماعي، ولكل تفاعل بين القوى الاجتماعية التي تعتمل في عمقه، بل هي ليست إلا النتاج النهائي والظاهري الذي تؤول إليه حالات السلطة المتعددة القادمة من ثنايا هذا الفضاء.

* المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف.
I. إشكال المحور: إذا كانت القدرة على الإكراه وفرض الطاعة مقوما لكل سلطة، فمن أين تستمد الدولة هذه القدرة؟ هل من قوة العنف المادي، أم من قوة الحق والقانون؟
II. التصورات الفلسفية
1- تصور نيكولا ماكيافيل( مفكر إيطالي، من أهم مؤسسي الفكر السياسي- 1469/1527)
ليست هناك كيفية كونية توجه عمل الدولة، وإنما الأمر بيد الحاكم فهو الذي يوجه دفتها على النحو الذي يبدو له مناسبا بغاية الحفاظ على السلطة وتطوير الدولة، بغض النظر عن الوسائل، إذ" الغاية تبرر الوسيلة". وهناك على العموم، طريقتان لممارسة السلطة والحفاظ عليها: إما بواسطة القوانين أو بواسطة القوة/ العنف. فالطريقة الأولى من شيمة الإنسان، بينما الثانية من طبيعة الحيوان. وعلى "الأمير" أن يجيد استعمالهما معا، إذا لا حظ لأحدهما في الاستمرار بمعزل عن الآخر. ويوضح ميكيافيل هذا الأمر في كتابه "الأمير" على النحو التالي:" وحيث إن الأمير ملزم باستعمال أسلوب الحيوان، فعليه أن يقلد الثعلب والأسد معا، لأن الأسد لا يحمي نفسه من الشراك، والثعلب لا يقوى على التصدي للذئاب. لذا ينبغي على الحاكم أن يكون ثعلبا للتعرف على مكامن الشراك، وأسدا لإرهاب الذئاب".
- استنتاج:
لقد أفضت الطريقة الواقعية التي ينظر بها ميكيافيلي إلى الدولة والسلطة السياسية، والتي تأثر بها أغلب رجال السياسة منذ عصره حتى الآن، إلى تصور الممارسة السياسية للدولة على نحو براغماتي. إذ أنها مفتوحة على إمكانية التطابق مع القوانين الموضوعة و"الفضائل الإنسانية المحمودة" أو التظاهر بذلك، كما أنها مفتوحة على إمكانية استعمال القوة المادية المباشرة أو التهديد بها. وكل منهما مطابق للشرعية حسب ميكيافيلي، أن الهدف الأبعد هو الحفاظ على سلطة الدولة وتطويرها.

2- تصور ماكس فيبر
إذا كان قيام الدولة الحديثة يستند على أساس المشروعية العقلانية، كما أسلفنا الذكر، فإن الآليات الداخلية لعمل الدولة لابد أن تعتمد على العنف. إلا أنه عنف من نوع خاص، فهو عنف مشروع وشرعي، أي أنه مقبول من طرف ضحاياه و يمارس وفقا للقانون. فالدولة الحديثة تتحدد- حسب ماكس فيبر- باعتبارها الكيان السياسي الذي يتمتع"بحق احتكار العنف المادي المشروع"، إذ أن وجودها مقترن بحضور العنف فيها، وكأن الوجود السياسي للإنسان، وجود يحميه ويوجهه العنف الممركز والشرعي للدولة.
- استنتاج:
إذا كان ميكيافيلي قد اعتبر التجاء الدولة إلى العنف، إمكانية نقيض للالتجاءها إلى القانون، رغم تلازم هاتين الإمكانيتين. فإن ماكس فيبر يعتبر أن احتكار العنف واستعماله من قبل الدولة يدخل في صلب البنية القانونية نفسها. ولهذا يميز المفكر المعاصر بول ريكور بين العنف الذي يمارسه الأفرادLa violence وبين القوة La forceالتي تمارسها الدولة في إطار القانون. فالعنف يوجد دائما خارج الحق، بينما الدولة الحديثة تمارس القوة لصيانة الحق وخدمة المصلحة العامة.
3- جاكلين روس J. Russ
تنحو جاكلين روس إلى الجمع الإيجابي بين الحق الطبيعي الكوني، باعتباره ما ينبغي أن يكون، ومفاهيم القانون والمؤسسات السياسية و الاجتماعية، باعتبارها تعبر عما هو كائن. هذا الجمع يتمثل في مفهوم"دولة الحق"، و التي هي الدولة الحديثة التي تمارس السلطة بشكل عقلاني، يتقيد بمبدأ إجلال كرامة الشخص الإنساني واعتباره غاية في حد ذاته ، وهو المبدأ الذي يتمظهر في: احترام الحريات الفردية و العامة، و مبدأ فصل السلط: التشريعية و التنفيذية و القضائية، كضمانة للعدالة و النزاهة.
- استنتاج:
نستنتج أن جاكلين روس تدعو إلى قيام الدولة على الحق الأخلاقي وعلى القانون المطابق لهذا الحق، أما القوة فليست إلا وسيلة ثانوية وعرضية محدودة بحدود الحق والقانون، لأن الغاية العليا للدولة هي صيانة كرامة الشخص و صيانة حرياته.
* تركيب:
لقد شكل التفكير في طبيعة وأسس ووظائف الدولة الحديثة، منعطفا جذريا في تاريخ الفكر السياسي. منعطف يعكس التحولات الكبرى في تاريخ المجتمعات البشرية، بانتقالها من النظم التقليدية في الإنتاج الاقتصادي والتنظيم السياسي، ومن الأنساق المعرفية اللاهوتية، إلى عصر الحداثة الاقتصادية(النظام الرأسمالي)، والسياسية(الأنظمة الديمقراطية) والفكرية( الفكر العقلاني). لكن إذا كانت الدولة الديمقراطية الحديثة تشكل مكسبا للإنسانية من حيث قيامها على مبادئ الحق والقانون والحرية والتنظيم العقلاني. فإن هناك نظريات في الفكر السياسي، شأن النظرية الماركسية، تناولت مفهوم الدولة الحديثة بالنقد، باعتبارها ليست النموذج الأمثل والنهائي للتنظيم الاجتماعي، الخليق بتحقيق تطلعات البشرية إلى التحرر من كل أشكال الاستلاب و العبودية. وهذه المحدودية التي تسم الدولة الحديث راجعة بالأساس – حسب التصور الماركسي- إلى طبيعتها الطبقية البورجوازية. لذلك كانت الدعوة إلى تحطيم جهاز الدولة البورجوازي عبر ثورة اجتماعية تقودها البروليتاريا، وبناء دولة عمالية اشتراكية، تؤمم وسائل الإنتاج وتخدم فعلا المصلحة العامة للمجتمع، عبر الديمقراطية المباشرة للمجالس القاعدية للشعب، التي تعتبر شكلا أرقى من الديمقراطية التمثيلية في الدولة البورجوازية الحديثة، في أفق اضمحلال جهاز الدولة التدريجي وقيام مجتمع المواطنين المنتجين المتشاركين والأحرار، كمجتمع مستغن عن الدولة.

الوحدة الثانية: مفهوم العنف
* تقديم:
إذا كان العنف هو إلحاق الضرر بشخص أو جماعة ما، جسديا أو نفسيا أو رمزيا، فإن هذه الممارسة تغطي كافة مجالات وعلاقات التفاعل البشري، كما أنها وجدت على امتداد التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للإنسان. وترتبط هذه الممارسة بالأفراد حينا ، كما ترعاها المؤسسات أحيانا أخرى. يتقمص صورة الواجب المقدس، كما تحمل صفة الظلم والعدوان. وهو ما يؤسس لطرح مجموعة من التساؤلات:
هل العنف محايث للطبيعة الإنسانية، أم أنه نتاج للمكتسبات الثقافية والتجربة التاريخية للإنسان؟ وماهي مظاهره وتجلياته؟
كيف تولد العنف في التاريخ؟ وما هي الأدوار التي كان يلعبها؟
من أين يستمد العنف مشروعيته؟ وبأي مهنى يمكننا الحديث عن عنف مشروع؟

* المحور الأول: طبيعة العنف ومظاهره.
I. الإطار الإشكالي:
من أين ينبثق العنف كظاهرة سلوكية وممارسة مؤسسية؟ أهو معطى غريزي صادر عن الفطرة البشرية، أم أنه مكتسب ثقافي ناتج عن التجربة الحضارية التاريخية للإنسان؟ وما هي مختلف مظاهره وتجلياته في الواقع البشري؟
II. التصورات الفلسفية.
1- طبيعة العنف وأصله.
أ- تصور سغموند فرويد.
العنف ظاهرة غريزية تحركها الدوافع التدميرية الأولية(تناتوس) الموجودة في عمق الجهاز النفسي للإنسان إلى جانب دوافع الحياة والبناء(أيروس). وقد توجه هذه الطاقة التدميرية تجاه الذات(الشخصية المازوشية)أو الآخرين (الشخصية السادية) أو الأشياء. وما الحروب وكل أشكال العدوان والهمجية واستعمال القوة، بشكل فردي أو مؤسسي إلا تصعيد غير مباشر لتلك الدواف الغريزية.
ب- تصور كنراد لورنز Lorenz(عالم نمساوي 1903-1989).
العنف عريزي ومكتسب في الآن نفسه، فرغم أنه موروث غريزي لدى الإنسان إلا أنه طور عن طريق الثقافة عبر التاريخ، ليصبح أكثر تدميرا وبشاعة، بحكم أنه أصبح يعتمد على الدقة المنهجية والتفوق التقني، مثل ما هو الشأن في الحروب والإرهاب و التعذيب الرمزي.
2- مظاهر العنف.
تصور إيف ميشو Yves Michaud.
بين ميشو أن العنف ظاهرة حاضرة عبر تاريخ البشرية ، متخذة عدة أشكال، منها ما هو غير مباشر، مثل التجويع، ومنها ماهو مباشر، كالإعدامات و التعذيب. كما وضخ ميشو أن القرن 20 هو عصر العنف بامتياز ، فهو القرن الذي شهد حربين عالميتين، وحروب استعمارية وتحريرية عديدة، إضافة إى الإبادات والإضطهادات...ويبين ميشو أن إنتاج وسائل العنف يشمل وسائل التسلح الفردي وكذا وسائل التخريب الجماعي . وكون الأسلحة متوفرة و في متناول الجميع، بل ويتم تمريرها عبر البلدا بشكل مشروع وعلني، عبر معاهدات دولية ومساعدات عسكرة ... جعل العنف أكثر حدة وفتكا وإنتشارا ، خاصة مع توظيف التقنيات المتطورة والعلوم في إنتاج وسائل العنف. يقول ميشو:"إن هذه التكنولوجيا المتطورة لا تجعل العنف في المتناول فقط، بل تجعله على وجه الخصوص أكثر فتكا"، وما عزز هذا الوضع هو الاستعمال الممنهج لوسائل الإعلام التي تروج لمختلف مظاهر الإبادة والتعذيب والتخريب.
تصور بيير بورديوPierre Bourdieu
هناك شكل آخر من العنف لا يرتبط بالأسلحة ووسائل التعذيب التي تمس الجسد، بل إنه عنف لطيف، كما يقول بورديو، وغير ملموس ماديا، يقوم على إلحاق الأذى الذهني والنفسي والثقافي. وهو عنف يجعل المتلقي متقبلا له بل ومشاركا فيه ضد نفسه، ومثال ذلك العنف الرمزي الذي يقوم به الخطاب الأيديولوجي عبر عدة مؤسسات ( العائلة، المدرسة، الإعلام...)، إذ هي أجهزة تؤدي وظيفة قمعية بطريقة غير مباشرة، فلا يشعر الفرد بطابعا الإكراهي ، ويتقبل ممارساتها في إطار البديهيات و المسلمات الثقافية و الاجتماعية. إنه عنف يمارس بطريقة صامتة في إطار النظام العادي للأشياء.(أنظر أيضا تصور ألتوسير- المحور الثاني من مفهوم الدولة ).

* المحور الثاني: العنف في التاريخ .
I. الإطار الإشكالي:
كيف تولد العنف عبر التاريخ؟ وما هو الدور الذي لعبه في الصيرورة التاريخية؟
II. التصورات الفلسفية.
1- تصور كارل ماركس.
يتحدد وجود كل مجتمع بشري بالصراع بين الطبقات الاجتماعية المتناقضة المصالح، طبقات تمتلك وسائل الإنتاج وأخرى لا تمتلك غير قوة عملها، وهو صراع قائم منذ أن تجاوزت البشرية مرحلة المشاعة البدائية، وظهور الملكية الخاصة، التي شكلت الأساس المادي لتشكل الطبقات، إلى المجتمعات الرأسمالية المعاصرة، بل إن هذا الصراع كان دائما هو القوة المحركة لعجلة التاريخ(يقول ماركس "إن تاريخ المجتمعات البشرية هو تاريخ الصراع بين الطبقات")، من خلال تثوير علاقات الإنتاج القائمة، وتأسيس علاقات إنتاج جديدة من طرف قوة اجتماعية ثورية.فهو صراع بين مصلحتين اجتماعيتين متناقضتين، مصلحة الطبقة السائدة في تأبيد سيادتها ومصلحة الطبقة المضطهدة في التحرر من اضطهادها. وقد يتخذ الصراع الطبقي أشكالا فردية لاواعية، كما يتخذ أشكالا جماعية منظمة نقابيا وسياسيا وأيديولوجيا. فالصراع بين الطبقات هو إما ممارسة لعنف اقتصادي(الاستغلال) و ذهني(الأيديولوجيا) و سياسي(سلطة الدولة) من طرف الطبقة المسيطرة، وإما ممارسة للعنف الثوري من طرف الطبقات المسيطر عليها والساعية إلى التحرر.
2- تصور روني جيرار.
في مقابل التصور الماركسي الذي يعتمد على مقاربة مادية تاريخية اجتماعي، يرى المفكر الفرنسي روني جيرار أن أساس العنف هو صراع وتنافس الرغبات الفردية، لأن الرغبات البشرية تخضع لقانون المحاكاة ، فرغبة الآخر هي نفس رغبتي، وكلما كانت رغبة الآخر قوية كانت رغبتي التي هي متوجهة نحو نفس الموضوع قوية وعنيفة، مما يؤدي إلى التنافس العنيف في إشباع هذه الرغبات على حساب بعضنا البعض، وهذا يؤدي إلى تنامي حدة الصراع و العنف، وهو عنف مفتوح في إطار تنامي البرغبة في الانتقام. وفي هذا السياق يضع روني جيرار كفرضية أن المجتمعات التي اختفت تماما، قد يكون ذلك نتيجة للاقتتال و العنف الدائم بين أفرادها، وفي المقابل فإن المجموعات التي استمرت ، فإن ذلك قد يكون نتيجة لوجود آليات زجرية رادعة(عنف مؤسسي)، استطاعت احتواء العنف بين أفرادها.
ويمكن أن ندرج في هذا السياق ماتوصل إليه مجموعة من العلماء الأنثربولوجيون، حول مختلف ممارسات العنف الطقوسية(مثل التضحية بأحد الأفراد وفق طقوس وشعائر قدسية) التي لعبت دورا أساسيا في الحفظ على تماسك الجماعات، من خلال التكثيف الرمزي لكل الشرور المحيقة بالجماعة في شخص قربان بشري أو حيواني.

* المحور الثالث: العنف والمشروعية.
I. الإطار الإشكالي:
من أين يستمد العنف مشروعيته؟ وبأي معنى يمكننا الحديث عن عنف مشروع؟
II. التصورات الفلسفية:
1- تصور ماكس فيبر و تصور جاكلين روس( أنظر الحور الثالث من مفهوم الدولة)
2 - تصور المهاتما غاندي(1869-1948.
يصور الزعيم الروحي و الوطني الهندي غاندي العنف بصفة عامة كرذيلة، يحكمها قانون حيواني، حيث تتم مواجهة القوة بالقوة، بغض النظر عن مسألة أي منهما يحظى بالمشروعية. إن القوة الحقيقية حسب غاندي هي قوة الروح، التي تتمكن من الانتصار على العنف بالسلم واللاعنف ، لأن العنف يقوم على الهدم، بحيث لا يمكن إن يؤدي إلى أي شيء إيجابي، بل يؤدي إلى تفاقم الحقد والضغينة، إنه إرادة سلبية تجاه الحياة.
إن فلسفة اللاعنف هي تعبير عن ارتقاء وتعال الإرادة الطيبة على السلبية والحقد والشر، ولهذا لا يجب أن نفهم أن اللاعنف هو جبن أو استسلام أو عجز عن المواجهة والرد بالعنف على العنف. فاللاعنف أقوى من العنف بمشروعيته الأخلاقية، فهو تأكيد لقوة الروح، في مقابل العنف الذي هو تعبير عن القوة الفيزيائية للجسد. يقول غاندي:" إن السمة الأساسية للعنف هي أنه يجب أن يكون وراء الفكر والكلام والفعل نية عنيفة، أي رغبة في إلحاق الأذي والألم بذلك الذي يعتبر خصما... وقد لاحظنا أن نشيد الحقد لم يفد الإنسانية في شيء". وتجب الإشارة هنا إلى أن مبدأ اللاعنف بالنسبة لغاندي لم يكن فقط مبدأ نظريا على مستوى التفكير وإنما كان مبدأ لمارسته العملية إبان قيادته المقاومة السلمية للاستعمار البريطاني.

الوحدة الثالثة: الحق والعدالة
* مفاهيم الوحدة:
- العدالة: Justice مشتقة من اللفظة اللاتينية jus (تقرأ "يوس") التي ترادف الحق. وفي معناها العام، تدل على احترام الحق والتطابق معه. ومن هنا يمكن أن تحيل "العدالة" على مؤسسة وضعية(القضاء)، كما يمكن أن تحيل على مقولة أخلاقية.
- المساواة: égalité
1- بالمعنى الأخلاقي" المبدأ الذي وفقه يمتلك الأشخاص، في أي مكان، نفس "الكرامة" أو القيمة".
2- المساواة المدنية والقانونية: "المبدأ الذي وفقه، يكون جميع الأفراد سواسية أمام القانون، ويتمتعون بنفس الحقوق المدنية."
3- المساواة السياسية: "المبدأ الذي وفقه يكون لجميع المواطنين الحق في الحصول على جميع الامتيازات وولوج جميع المرافق و الوظائف العمومية حسب قدراتهم" والتمتع بنفس حقوق المواطنة(الانتخاب والترشح...).
4- المساواة الاقتصادية والاجتماعية: " مبدأ إذا أردنا أن نعني به المساواة بمعناها الصارم، يمكن صياغته على النحو التالي:" لكل حسب حاجاته"، وإذا أردنا أن نعني به المساواة بمعناها التناسبي، يمكن صياغته على النحو التالي" لكل حسب عمله" أو " حسب قدرته"
- الإنصاف: équité العدالة التي تعتني بكل حالة خاصة بما يناسبها.(عدالة فارقية)

* المحور الأول: الحق بين الطبيعي والوضعي
I. البناء الإشكالي: ما هو أساس الحق ومرجعيته؟ هل يقوم على أساس ما هو طبيعي وأصلي وماهوي في الإنسان، أم يقوم على قاعدة ما هو ثقافي مضاف إلى الطبيعة ومتعاقد عليه بين أفراد المجتمع ؟ ومن ثمة هل الحق كوني مطلق أم نسبي يخضع للخصوصية؟
II. التصورات الفلسفية
1- التصور الماهوي-التعاقدي
فلاسفة التعاقد الاجتماعي.
ارتكزت نظرية "العقد الاجتماعي" في بنائها على ثنائية مفاهيمية، هي: فرضية"حالة الطبيعة" و"المجتمع المدني".
أ- توماس هوبز.
أ.1- حالة الطبيعة:
افترض الفيلسوف الإنجليزي هوبز أن حياة الأفراد في حالة الطبيعة يحكمها مبدآن:
- الحق الطبيعي: ويتمثل في حرية الفرد المطلقة في التصرف، ما لم تعترضه حواجز خارجية، غرض هذا التصرف "حفظ الحركة الحيوية" أو حفظ الحياة، و هو قائم على القوة بمعناها الفيزيائي المادي(حق القوة).
وما دام الحق الطبيعي ذو طابع فردي و مطلق، أي ما دام لكل فرد الحرية في أن يفعل ما يشاء، سواء توسل بالقوة أم بالمكر، من أجل الحفاظ على حياته الخاصة، فإنه لا محالة مؤد إلى حالة من الحرب الشاملة (حرب الكل ضد الكل) يكون فيها"الإنسان ذئبا للإنسان"، ومن ثمة استحالة "أن يبلغ الفرد حدود الحياة التي تسمح بها الطبيعة عادة للبشر"، فهو دائما تحت تهديد الموت العنيف، ومهما كان قويا واستطاع أن يرسي الحق لصالح استنادا على هذه القوة، فإنه سيصطدم بمن هو أقوى منه، ثم إن القوة بمعناها الفيزيائي متغيرة.
- القانون الطبيعي: وهو مبدأ عقلي، يمنع بمقتضاه على الإنسان أن يفعل ما قد يؤدي إلى تدمير حياته أو يحرمه من وسيلة صيانتها، أو ينسيه ما يراه ناجعا لذلك.
أ.2- المجتمع المدني:
ومن هنا سيجنح الأفراد إلى السلم، بتنازل كل منهم عن حريته المطلقة في فعل ما يحفظ الحياة، وذلك بإقامة تعاقد اجتماعي ينقلهم من حالة الطبيعة الفوضوية إلى حالة مجتمع مدني، بحيث تنبثق عن ذلك التعاقد سلطة مطلقة متعالية عن الأفراد، هي سلطة الدولة كسلطة محايدة للأفراد وملزمة لهم ورادعة لأهوائهم واندفاعهم.
ب- باروخ سبينوزا
ب.1- حالة الطبيعة
لقد تبنى سبينوزاSpinoza أطروحة الحق الطبيعي لكن من منظور آخر، حيث أكد أن هذا الحق يتمثل في قانون طبيعي حتمي ،لكل كائن بمقتضاه، الحق المطلق في "البقاء على وضعه" الطبيعي والتصرف وفق ما تمليه عليه طبيعته التي تميل إلى الدفاع عن الذات وحفظ الحياة، وما يضمن للفرد هذا الحق هو القوة والقدرة، فيكون له بالتالي من الحق بقدر ما له من قدرة وقوة لأن الإنسان مهيأ بالطبيعة إلى العمل وفقا لحق طبيعي مطلق تحكمه قوانين الرغبة والشهوة وقواعد القوة والقدرة لا قوانين العقل.
الحق إذن أن تفعل ما تفرضه عليك طبيعتك من دفاع عن الذات، وكما هو الحال عند هوبز فإن سبينوزا يقر بأن هيمنة حق القوة سيفضي إلى حالة من العداوة وعدم الاطمئنان و الشقاء، وبالتالي لابد من تجاوزها لعدة اعتبارات بعضها وجداني يتمثل في نزوع الإنسان إلى الأمن ورغبته اتقاء شر الغير، وبعضها عقلي يكمن في أن تحكيم العقل في أمور الحياة والقضاء على حالة تتحقق فيه مصلحة الأفراد.
ب.2- المجتمع المدنيهذان الاعتباران سيدفعان إلى إقامة تعاقد اجتماعي يتخلى بموجبه كل فرد عن قسط من حريته، لتكوين مجتمع منظم وديمقراطي، يجسد الإرادة العامة، ويسود فيه الأمن و الطمأنينة و التعاون و المنفعة العامة.
ج- كان جاك روسو: مكاسب حالة التمدن:
إن انتقال الإنسان من حالة الطبيعة المؤسسة على القوة إلى حالة التمدن حيث يسود الحق الثقافي المؤسس على مبدأ التعاقد والتعايش، والذي تمليه طبيعته العاقلة سينتج عنه تخلي الأفراد عن حقوقهم الطبيعية المطلقة لصالح سلطة عليا هي الدولة تشرع لهم نظما أخلاقية وقانونية مُلزمة هي الحقوق المدنية، ومن ثمة سيحل الحق المدني القائم على التعايش والأخلاق والذي تكون الدولة ـ كتعبير عن الإرادة العامة للأفراد ـ راعيته، بدل الحق الطبيعي القائم على القوة.
إن هذا الانتقال حسب روسو وإن كان سيفقد الإنسان كل حقوقه الطبيعية وبالذات حريته المطلقة وحقه المطلق في امتلاك كل ما يريد، فإنه بالمقابل سيحصل على مكاسب أعظم، إذ في حالة التمدن المؤسسة على الطبيعة العاقلة، وسوف تصطبغ سلوكاته بطابع أخلاقي ينصت فيه الإنسان لصوت الواجب العقلي لا صوت الغريزة، كما ستحل العدالة والمساواة محل الاندفاع الجسدي واللامساواة، والحرية المدنية المؤطرة بالإرادة العامة محل الحرية الطبيعية المطلقة، والملكية المصانة من طرف الدولة محل الملكية المهددة.
إن ولوج الإنسان حالة التمدن سيكسبه عدة مكاسب، بحيث لن يعود الحق هو ما تمليه حيوانية الإنسان بل ما تمليه ماهيته العاقلة، كما لن تعود القوة أساسا للحق وستصير الأخلاق قاعدة كل حق. هذا الانتقال هو انتقال من حق القوة الطبيعي إلى قوة الحق المدني ومن خلاله تتحقق ماهية الإنسان كاملة من حيث هو عقل وفكر وأخلاق وكرامة.
د- استنتاج:
إذا ما استقرأنا الفكر السياسي لفلاسفة العقد الاجتماعي، بحثا عن جواب لإشكال أساس الحق ومرجعيته، سنجدهم مجمعين على أن الحقوق التي ينبغي أن يحصنها المجتمع المدني مستلهمة من الحقوق الطبيعية التي كانت أصلا للأفراد في حالة الطبيعة، بعد أن يكون قد هذبها فعل التعاقد الاجتماعي، بقوانينه ومؤسساته، و جعلها تتجاوز طابعها الفردي المطلق و القائم على القوة، ومن ثمة يكون أساس الحق، من جهة أساس طبيعي يتمثل في الحقوق التي تحملها الماهية الإنسانية والتي تشكل مرجعية لأي قانون مدني وضعي( الحياة، المساواة، الكرامة، الحرية...)، ومن جهة أخرى أساس ثقافي قائم على التعاقد و المواضعة.

هـ- كونية الحق وكرامة الإنسان : ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
إن الأطروحات السابقة تلح على وجوب وضع حد للحق الطبيعي المرادف للحرية المطلقة والمؤسس على القوة، والانتقال إلى حالة ثقافية يتأسس فيها الحق على الإلزام القانوني والالتزام الأخلاقي، وهذا الانتقال نتجت عنه عدة مكاسب أهمها تشريع حقوق إنسان مدنية معترف بها على المستوى الأممي، تصون كرامة الإنسان وتراعي ميزته النوعية من حيث هو كائن عاقل حر مريد. إلا أن بلورة هذه الحقوق في تشريعات وضعية لا يعني مطلقا إنكارا للحقوق الطبيعية بل تنظيما وتأسيسا لها. يقول هوبز" فليست الطبيعة هي التي تؤسس الحق مباشرة، وإنما العقل هو الذي يقوم بتعديل وتصحيح ما هو في الطبيعة"(من كتاب"الليفيتان"Léviathan)
- استنتاج:
من هنا يكون الجواب على الشق الثاني من الإشكال( الحق بين الكونية و النسبية) أن الحق ذو قيمة كونية مادام أساسه طبيعي/ماهوي لأن الطبيعة و الماهية هي أساس مشترك بين النوع البشري برمته.
التصور الوضعي : نسبية الحق" هانز كيلسن"
إذا كان التصور الماهوي- التعاقدي يؤكد أن حقوق الإنسان الطبيعية هي قاعدة كل حقوقه المدنية، ويتبنى موقفا توفيقيا لمفهوم الحق يجمع بين الطبيعي البيولوجي والثقافي الوضعي، بحيث يراعي طبيعة الإنسان في كلتيها، وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد خصِّ حقوق الإنسان بطابع كوني يضمن للإنسان كرامته. فإن ثمة تصورا مغايرا يقر بأنه لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي. فالحق يدل على ما هو كائن لا ما ينبغي أن يكون، وهو يستمد قوته من القوانين المؤسسة له والتي يلزم العمل بها حتى يتحول الحق إلى واقع معيش. يؤكد هذا التصور إذن على نسبية الحق وطابعه اللاكوني نظرا لاختلاف النظم القانونية واختيارات ومبادئ كل مجتمع، ولما كانت هذه المبادئ نسبية ودائمة التغير كان الحق الذي يقوم عليها عرضة للتغيرات هو أيضا بمجرد أن تحل تشكيلة اجتماعية محل أخرى أو نظام سياسي محل آخر تتغير الحقوق لتحل محلها أخرى. الحق إذن كقيمة كونية ثابتة لا وجود له، إنه قيمة نسبية متغيرة قابلة للمراجعة وإعادة التأسيس وفق موازين القوى الاجتماعية، ووفق تصور كل جماعة له.
*المحور الثاني: الحق والعدالة
I. البناء الإشكالي:
ما علاقة العدالة بالحق من حيث بعديهما الطبيعي والوضعي؟
II. التصورات الفلسفية.
إذا كانت العدالة في معناها العام، تدل على احترام الحق والتطابق معه. فإن لعلاقة التطابق هذه معنا مزدوجا، حسب الدلالة التي يحملها مفهوم العدالة:
1- العدالة باعتبارها السلطة الوضعية السياسية أو القضائية، التي تراقب مدى تطابق الوقائع والسلوكات مع الحق الذي يعني هنا، مجموع القوانين التي سنت من قبل السلطة التشريعية لتنظيم العلاقات الاجتماعية، عبر تحديد ما هو ملزم( ما يجب أن يكون) وما هو مباح(ما يمكن أن يكون) وما هو ممنوع(ما لا ينبغي أن يكون)، وبوجود قوة عمومية تضمن ذلك التطابق.
فالعدالة هنا هي ممارسة مؤسسية وضعية، تسهر على ضمان احترام الحق بمعناه الوضعي أي القانون. فالحق/القانون بهذا المعنى هو أساس العدالة، بحيث أن الحكم العادل هو الحكم المطابق للقانون ( أنظر التصور الوضعي). لكن إذا ما تأملنا في الواقع الملموس، نجد أنه، مهما كانت الأنظمة السياسية والقضائية عادلة(أي أن ممارستها تتطابق مع القوانين الموضوعة)، فإن هناك دائما أشخاص وحركات مناضلة تطالب ب"العدالة"(هنا يبرز معنى آخر للعدالة) وحقوق الإنسان، مما يحيلنا على وجه ثان للعلاقة بين العدالة والحق.
2- العدالة باعتبارها ذلك النظام الأخلاقي المثالي والكوني، الذي وفقه ينبغي أن يحصل كل شخص على ما يستحق، وأن يتمتع جميع الأفراد بحقوقهم الطبيعية على قدم المساواة ، وحيث يشكل الدفاع عن مثل هذا النظام وإرادة إرساءه، على مستوى الواقع والسلوك الاجتماعيين، واجبا مطلقا وفضيلة أخلاقية. فالعدالة هنا هي نظام الحقوق الطبيعية الكونية.
فالعدالة هنا بما هي نظام من التوازن المثالي الذي يفرضه صوت الواجب الأخلاقي لدى الفرد، بقدر ما تجد أساسها في الحق بمعناه الطبيعي والأخلاقي الكوني، بقدر ما تشكل أساسا ومعيارا للحق بمعناه الوضعي القانوني. ولذلك نفهم لماذا وجدنا مفهوم العدالة ملازما لجل الأنساق عبر تاريخ الفلسفة، حاملا دلالة الفضيلة أو الحس الأخلاقي المتجذر في الماهية الإنسانية، وهو حس يتفتح في إطار علاقة الفرد بالآخرين داخل الجماعة. فحتى إذا وجدنا الفلاسفة يتحدثون عن العدالة بوصفها احتراما للقانون، فإنهم يفترضون مسبقا أن هذا القانون مطابق للحق، أي أنه قانون عادل.
نماذج من تاريخ الفلسفة:
- أرسطو(Aristote384-322 A.J): يتحدد العادل عند أرسطو، من جهة بوصفه " من يتصرف وفق القوانين" التي"... غايتها حماية المصلحة العامة... وذلك طبقا للفضيلة أو لكل ما يماثلها"، ومن جهة أخرى يتحدد بوصفه" من يرعى المساواة". فلنقل بتعبير واحد – حسب عبارة أرسطو- :" إن الفعل العادل هو الفعل القادر، كليا أو جزئيا، على إيجاد أو حماية سعادة الجماعة السياسية"(Ethique à Nichomaque).
- آلان(Alain(Emile Chartier 1862-1951: يقول آلان" ما الحق؟ إنه المساواة... لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية ، سواء كانوا رجالا أو نساء أو أطفالا، أو مرضى أو جهالا. أما أولئك الذين يقولون أن اللامساواة هي من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا"(Propos d’un Normand).
- استنتاج:
يمكن أن نستنتج من خلال هذين التصورين أن العلاقة بين مفاهيم الحق والقانون والمساواة والعدالة، هي على النحو التالي: القانون العادل(العدالة الوضعية) هو القانون المطابق للحقوق الكونية الطبيعية(العدالة بالمعنى المثالي كفضيلة أخلاقية)، والذي يضمن للجميع حقوقهم على قدم المساواة. وبذلك يشكل الحق الطبيعي، وخاصة المساواة، مقوما للعدالة الأخلاقية المثالية، وتشكل هذه الأخيرة مرجعية للقانون الوضعي، الذي يشكل معيارا للعدالة بمعناها الوضعي المؤسسي.
لكن هل تكفي مراعاة المساواة أمام القانون، لتحقيق العدالة؟

* المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف
I. البناء الإشكالي:
إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟
II. التصورات الفلسفية
1- تصور أرسطو:
إذا كان أرسطو، كما مر معنا، قد وضع المساواة بين المواطنين واحترام القانون، كمحددين أساسيين للعدالة، فإنه حين عمق النظر في مفهوم العدالة والمساواة القانونيتين، اكتشف قصورهما ومحدوديتهما في إرساء عدل حقيقي. هذا القصور راجع، حسب أرسطو، إلى عمومية النصوص القانونية، حيث من الصعب- إن لم يكن من المستحيل- أن يصوغ المشرع تعبيرات دقيقة عن كل الحالات النوعية والخاصة للأفعال الاجتماعية، وبالتالي فهو معرض للخطأ ومن ثم للمس بمبدأ العدالة ذاته. لذلك استحضر أرسطو مفهوم الإنصاف، الذي تكمن طبيعته في"تصحيح القانون، وتجاوز عدم كفايته بسبب عمومية خطابه"، عبر " الرجوع إلى مجلس الشعب( إي المؤسسة التشريعية) لاستصدار مراسيم" يكون من شأنها إعطاء تدقيق قانوني. فالإنصاف إذن درجة أعلى من العدالة القانونية، لأنه يعبر عن اليقظة الدائمة لفضيلة العدالة، كإرادة أخلاقية ساعية على الدوام نحو إحقاق الحق، حتى إن لم يتضمنه القانون.
2- تصور راولز (John Rawls1921-2002):
ينطلق راولز، في نظريته السياسية التي سماها " نظرية العدالة بوصفها إنصافا"، من فرضية مشابهة لتلك التي انطلقت منها نظرية"العقد الاجتماعي" خلال القرنين 17 و18. إذ يدعونا إلى تصور حالة افتراضية، سماها حالة المساواة الأصلية بين الناس، هؤلاء الناس هم أشخاص أحرار وعاقلون، غير أنهم يجهلون تماما أي شيء عن مصالحهم الخاصة، أي"أن لا أحد فيهم يعرف مسبقا مكانته في المجتمع، ولا وضعه الطبقي... بل حتى لا يملكون تصورا للخير". أناس في هذه الحالة، " حيث لا أحد منهم يكون في وضعية امتياز.. يمكن أن يسعى إلى تدعيمها"، على أية قواعد للاجتماع العادل سيتفقون؟ يتوقع راوولز أن يتفقوا على مبدأين مختلفين، لكن منسجمين:
- يفرض المبدأ الأول المساواة في "الحقوق الأساسيةDroits de base." بين جميع الناس.
- ويفرض المبدأ الثاني القبول باللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، مثل"اللامساواة في الثروة والسلطة"، بشرط أن يتكافأ الجميع في فرص الحصول على الامتيازات وولوج مختلف الوظائف والمراتب، حسب المؤهلات والقدرات الشخصية.
ويخلص راوولز إلى أنه في تضافر هذين المبدأين تأسيس لعدالة منصفة، ومحفزة لتعاون فعال بين الجميع، الأقل حظا والأوفر حظا، في امتلاك الامتيازات، ما دام الجميع متساو في الحقوق الأساسية ومادامت الفرص متكافئة بالنسبة للجميع في التفوق اقتصاديا واجتماعيا.
- استنتاج: إذا كان تصور أرسطو يجعل من الإنصاف تعميقا وتعميما للمساواة بين الناس وتصحيحا لأي منزلق يمكن أن تسقط فيه العدالة القانونية، فإن تصور راولز يجعل من الانصاف تحفظا على المساواة المطلقة بين الناس في كل شيء، فإن كان من الضروري- في نظره- إحلال المساواة في الحقوق الأساسية(الحياة، الحرية، التعبير، المشاركة السياسي...)، فإنه من الضروري أيضا فتح المجال أمام تميز الأشخاص الذين يمتلكون قدرات وكفاءات تفوق الآخرين.
وإذا كان التصور الماركسي، خاصة في صيغته اللينينية(فلاديمير إيليتش لينين قائد الثورة البلشفية الروسية ومؤسس الاتحاد السوفياتي الاشتراكي)، قد يتفق نسبيا مع راولز في تصور "العدالة الاجتماعية"، من خلال الشعار الذي حملته الدولة الاشتراكية" لكل حسب عمله"، فإنه يختلف معه في الأفق الذي وضعته النظرية الاشتراكية لمشروعها المجتمعي وهو الأفق الذي يلخصه شعار" لكل حسب حاجاته" . وهو ما يعني أن النظام الاجتماعي العادل، حتى وإن قبل ببعض مظاهر التفاوت في مرحلة معينة من تطوره نظرا لتفاوت مؤهلات وكفاءات الناس بسبب الظروف والبنيات التي شرطت وجودهم الاجتماعي السابق للثورة، فعلى هذا المجتمع أن يتخذ إجراءات إصلاحية جذرية على المستويات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، بشكل يجعل الجميع يمتلك هذه المؤهلات، كي لا يبقى التفاوت فيها مبررا للامساواة الاجتماعية، وبشكل ينقل العمل الإنتاجي من عالم الضرورة إلى عالم الحرية، في إطار اقتصاد الوفرة والوقت الحر.
[1] المعارف التركيبية: التي تأتينا بجديد عن الوقائع، مقابل المعرفة التحليلية، مثل الرياضيات والمنطق التي لا تخص إلا علاقة الأفكار فيما بينها ولا تتطلب إلا الاتساق الداخلي بين هذه الأفكار

ليست هناك تعليقات: