الأحد، فبراير 07، 2010

الوحدة الثالثة: مفهوم التاريخ

* تقديم:
نحن الآن أمام إشكاليتين أساسيتين، إحداهما من طبيعة إبستمولوجية/ معرفية: كيف يمكن كتابة التاريخ؟ وما هي شروط إمكان قيامه كمعرفة بالماضي؟
والاشكالية الأخرى تنتمي إلى فلسفة التاريخ: هل لصيرورة تاريخ البشرية من نظام أو وجهة محددة؟ وما دور الإنسان في صنع هذه الصيرورة وتوجيهها؟
إلا أن هاتين الإشكاليتين، ورغم اختلاف مجالاتهما المعرفية، فهما مترابطتان بشكل وثيق في واقع الحال، إذ ليس لتاريخ البشرية من "وجود" أو "واقعية" إلا داخل وعبر تاريخ المؤرخين.

* الإشكالية الأولى: المعرفة التاريخية:
- الإشكال الأول: التأريخ بين السرد التعليل التعليل العقلي.
I. الصياغة الإشكالية:

ما هي، على وجه التحديد، المهمة المنوطة بالمؤرخ؟ هل عليه أن يكتفي بالسرد الحكائي للمادة التاريخية في شكلها الخام، أم أن عليه أن يتعدى ذلك إلى التعليل العقلي السببي للأحداث والوقائع؟
II. التصورات الفلسفية:
لتاريخ المؤرخين بدوره تاريخ خاص به، أي أن له بداية محددة وروادا استطاعوا أن يؤسسوا نمطا من المعرفة بالماضي مختلفا ومضادا لأشكال التدوين السابقة التي كانت تتمثل في الأساطير والخرافات التي هي خطابات بدون مؤلفين، وتفتقر إلى البعد النقدي. فلدى المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت Hérodote (حوالي 420-285ق م) الملقب بأبي التاريخ، نجد أن كلمة تاريخ كانت ماتزال مرادفة لسرد المعلومات و التقصي عنها، ، فقد جمع في كتابه الشهير حكايات عن الحياة اليومية و الأخلاق والمؤسسات، بل أيضا أساطير تلك المرحلة التي عاشها. لكن سنوات بعد ذلك حقق تيوسديدThucydide(470-401 ق م) تقدما كبيرا بالمقارنة مع مواطنه هيرودوت، من خلال كتابه عن "تاريخ الحرب البيلوبونية"، وتجلى هذا التقدم في المجهود الذي بذله من أجل استشفاف مبدأ للمعقولية والفهم وراء انسياب الأحداث التاريخية، بالإضافة إلى انشغاله بالتوثيق الدقيق و المعمق. وبذلك يكون تيوسديد قد أدخل إلى المعرفة التاريخية هذه المقاربة النقدية التي تضع مسافة بين الذات العارفة وموضوع المعرفة مستحضرة هاجس الموضوعية، و التي بدونها ما كان ليقوم علم حقيقي بالتاريخ. نفس المجهود قام به المؤرخ العربي عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) في مقدمة كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر"، إذ ميز بين ظاهر التاريخ الذي " لا يزيد على أخبار الأيام والدول وسرد أحوال الماضين"، وبين باطن التاريخ الذي هو "نظر وتحقيق وتعليل وعلم بالكيفيات والأسباب لا مجرد رواية الأخبار"، وقد سمى هذا المستوى الثاني من التاريخ بعلم العمران البشري. هذه الخصوصية المنهجية للمعرفة التاريخية هي التي أكد عليها واعتمدها المشتغلون المعاصرون بالتاريخ، إذ يؤكد ريمون آرون أنه لا وجود لماض خالص، فكل ماض هو مستحضر، ولا يمكن للمعرفة به إلا أن تكون معرفة مبنية وفق نموذج نظري محدد، يحاول فهم الماضي بقدر ما يحاول تفسير أحداثه والبحث عن العلل الخفية التي حددتها. وبذلك فالمعرفة التاريخية أبعد أن تكون عن الجمع الكمي للأحداث والوقائع، بل إن مهمة المؤرخ- شأنه شأن أي عالم- تتمثل بالضبط في تصنيف وإعادة بناء هذه الأحداث والوقائع في إطار تركيبات سببية( اقتصادية، سياسية، ثقافية...) من شأنها أن تعطيها معنى وتضفي عليها المعقولية، وتجعلها قابلة للفهم.


- الإشكال الثاني:مشكلة الموضوعية.
I. الصياغة الإشكالية:
إذا كان المؤرخ ينكب على دراسة الماضي اعتمادا على آثاره الوثائقية، وعلى استحضار أحداثه ووقائعه، فما هي حدود الذاتي والموضوعي في مقاربة المؤرخ؟ وإلى أي حد يتطابق استحضار الماضي وتعليله مع الماضي الخالص نفسه؟ وهل هناك نمط واحد من الموضوعية؟
II. التصورات الفلسفية:
تتمثل المشكلة المركزية بالنسبة للمؤرخ في مدى موضوعية المعرفة التي يقدمها عن الماضي. ولا نقصد هنا بالموضوعية نزاهة السرد التاريخي، ومصداقية السند الوثائقي فحسب، وإنما مطابقته لموضوعه، أي لحقيقة الوقائع ذاتها في سياقها التاريخي. بيد أن موضوع المعرفة التاريخية هو البشر، ومن ثمة تصرفاتهم الحاملة لمعاني ونوايا خفية في أغلب الأحيان، وتستدعي بالتالي تحليلها وتفكيك شيفرتها. ولكن الموضوعية المطلوبة في علم التاريخ المعاصر، لا تتخذ العلوم الطبيعية كنموذج لها، كما كان الاعتقاد في القرن 19، وإنما هي نمط آخر جديد من الموضوعية يشترك مع موضوعية العلوم الدقيقة في أن الفكر المنهجي والنقدي هو الذي يبني الحقائق وينظمها ويفهمها ويقصي كل ما من شأنه أن يشوه مصداقيتها، إلا أنه مع ذلك لا يقصي الجانب الذاتي للمؤرخ، كمنهج لمقاربة موضوعه. "فنحن ننتظر من التاريخ أن يضيف إقليما جديدا إلى إمبراطورية الموضوعية المتنوعة" كما يقول بول ريكورP.Ricoeur. و يتعلق الأمر هنا بنوع خاص من الذاتية، تلك التي تعني النسيان الطوعي للذات ولاعتقاداتها واستيهاماتها وأهوائها الفردية(الذاتية القبيحة حسب ريكور) ، وفي المقابل الانفتاح على الآخر- الذي هو هنا ذلك "الواقع" الذي لم يعد موجودا- والتعاطف معه بل ونسج علاقة صداقة معه من أجل فهمه، كما يقول هنري إيريني ماروH.Marrou(1904-1977)، إنه الانتقال من ذاتية الفرد إلى ذاتية الإنسان، بما أن الواقع المدروس هو ماض الإنسان(الذاتية المحمودة أو الجيدة حسب ريكور).فخصوصية موضوع المعرفة التاريخية، تفرض على المؤرخ تبني نمطين من المقاربة المنهجية يبدوان في الظاهر متناقضين، لكنهما في الواقع متكاملان، فبقدر ما على المؤرخ أن يتخذ مسافة نقدية بينه وبين المادة التاريخية التي يشتغل عليها، بقدر ما عليه التدخل بوجهة نظره- لكن بحسن نية- من أجل تقدير أهمية العوامل المفسرة على سبيل المثال.
بيد أن هذا الهامش الواسع المفتوح أمام تدخل ذات المؤرخ، جعل بعض الإبستيمولوجيين، مثل G.Granger (1920-...)ينفون عن المعرفة التاريخية صفة العلمية، لأنه إذا كانت مهمة العلم هي بناء نماذج نظرية فعالة قادرة على فهم وتفسير الظواهر الموجودة في الواقع، فإن المعرفة التاريخية تقوم بإعادة بناء تلك الوقائع ذاتها، بالاعتماد على تشكيلة متنوعة من المقاربات تارة اجتماعية وتارة نفسية وتارة لغوية... مما يجعل عمل المؤرخ يندرج ضمن مجال الرواية الأدبية والمقاربة الجمالية الفنية، وبالتالي يكون ادعاؤه العلمية من قبيل الخطاب الأيديولوجي.

* الإشكالية الثانية: طبيعة الصيرورة التاريخية.
- الإشكال الأول: التاريخ وفكرة التقدم:
I. الصياغة الإشكالية:
ما طبيعة الصيرورة التاريخية؟ أهي سلسلة مترابطة الحلقات، بحيث يحدد السابق منها اللاحق سببيا، أم أنها سلسلة من الأحداث المتعاقبة بدون رابط ضروري؟ هل للتاريخ وجهة ومعنى وغاية، أم أن حركته تخضع للإعتباط؟
II. التصورات الفلسفية:
لقد تم تصور حركة التاريخ في الحضارات القديمة، على شكل سيرورة دائرية شبيهة بدورة فصول الطبيعة وهو ما تجلى في الخطاب الأسطوري وفي الطقوس الشعائرية والاحتفالية( مثل الاحتفاء عند فصل كل ربيع بانبعاث آلهة الخصب). إلا أن التصور الديني الذي تبلور، بعد ذلك، داخل الديانات التوحيدية، انعتق من فكرة"العود الأبدي"هذه، ليتصور التاريخ كمسرح لتجسد إرادة العناية الإلهية، التي توجهه بشكل تصاعدي نحو الخلاص الروحي، وإن تجسد هذا الخلاص في فكرة "الآخرة" أو "العالم الآخر". لقد تضمن هذا التصور الديني بذرة فكرة التقدم التي ستتأسس عليها فلسفة التاريخ- مع فلاسفة القرن18 ثم هيجل- والقائلة بأن" التاريخ الإنساني تحقيق لمخطط ضمني" وأن صيرورة التاريخ تتجه نحو غاية قصوى، وبذلك فالوقائع التاريخية تستمد معناها من ذلك المخطط وتلك الغاية.
تنطلق فلسفة التاريخ الهيجلية المثالية من فكرة أن " كل ما هو عقلي فهو واقعي، وكل ما هو واقعي فهو عقلي"، ومن ثمة فالواقع التاريخي بجميع أحداثه وأفكاره، ليس شيئا آخر سوى التجسد التدريجي لما أسماه هيجل ب"العقل المطلق" أو "الروح الكلي" في روح هذا الشعب أو ذاك، خلال العصور المتعاقبة، وفق صيرورة جدلية تقدمية، وصوب غاية نهائية هي تحقق الوعي المطلق لهذا "العقل الكلي" بذاته من خلال اكتمال وعي الإنسان وتحرره المطلق. وكنتيجة لذلك ميز هيجل بين ثلاثة مراحل في تاريخ الإنسانية:
- المرحلة الشرقية القديمة: وقد عرفت حرية فرد واحد، هو الإمبراطور، على حساب الشعب.
- المرحلة اليونانية-الرومانية: وقد حصل فيها تقدم نسبي حيث أصبحت الحرية غير مقصورة على شخص واحد، وإنما تشمل فئة اجتماعية تمثلت في طبقة السادة المتمتعين بالديمقراطية على حساب العبيد.
- مرحلة الحضارة الحديثة: والتي ماثلها هيجل بالإمبراطورية البروسية، والتي اعتقد أنها تمثل التجسد النهائي للوعي والحرية المطلقين.
بعد هيجل تأسس شكل جديد من فلسفة التاريخ، على يد تلميذه كارل ماركس، سمي فيما بعد بالتاريخانية Historicisme، وهي النزعة التي ترى أن كل ظاهرة هي في حالة تطور وتحول مستمرين، وأن الحاضر ناتج عن الماضي، إذ أن فهم الأول رهين بمعرفة الثاني. وهكذا فرغم احتفاظ ماركس بالمنهج الجدلي الهيجلي وبفكرة الصيرورة، فقد رفض التفسير المثالي للتاريخ باعتباره تجسدا تدريجيا "للعقل الكوني" ومراحل متعاقبة لوعي هذا العقل بذاته، متصورا مقابل ذلك بأن التاريخ هو تاريخ الإنسان الواقعي المنتج الذي يعيش في إطار علاقات اقتصادية- اجتماعية محددة . ولم تعد الحقيقة الكلية التي تحكم الأحداث والوقائع في عصر معين هي فكرة "روح العصر" المثالية، وإنما هي حقيقة كلية واقعية تتمثل في "التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية" أو "نمط الإنتاج" السائد في ذلك العصر، والذي يتشكل أولا من بنية تحتية تتألف من: قوى الإنتاج، أي مجموع الأدوات والوسائل التي ينتج بها الإنسان ما يحتاج إليه. وعلاقات الإنتاج، أي طريقة التنظيم الاجتماعي ونمط العلاقة بين طبقات المجتمع ونمط ملكية وسائل الإنتاج (فردية أم جماعية). ويتشكل نمط الإنتاج ثانيا من البنية الفوقية وهي البنية الذهنية المؤلفة من مختلف أشكال الوعي السائدة(الفلسفية، الأسطورية، الدينية، السياسية، القانونية، الفنية...)، بحيث أن البنية المادية هي التي تحدد بنية الوعيو ليس العكس كما اعتقد هيجل. انطلاقا من هذه المفاهيم المادية الواقعية، فسر كارل ماركس صيرورة التاريخ: إذ أن التطور الذي يطرأ على قوى الإنتاج( مثال ظهور الآلة البخارية وتطور الملاحة وظهور تقسيم العمل المانيفاتوري، وتوالي الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية في بدابة العصور الحديثة) يصطدم بالإطار القديم لعلاقات الإنتاج الذي يتميز بميله إلى الثبات ومقاومة التغيير(تابع المثال1: علاقات الإنتاج الإقطاعية)، فيؤدي هذا التناقض إلى اندلاع صراع طبقي حاد بين الطبقات الاجتماعية ذات المصلحة في بقاء علاقات الإنتاج القديمة(ت م 1:النبلاء) و الأخرى ذات المصلحة في تغيير هذه العلاقات(ت م 1:البورجوازية والفلاحون الصغار)، فينتهي هذا الصراع إلى ثورة اجتماعية سياسية جذرية(ت م 1: الثورة الفرنسية...) تتغير على إثرها علاقات الإنتاج(ت م 1: تشكل نمط الإنتاج الرأسمالي الحديث)، وهكذا تسير حركة التاريخ بشكل تقدمي من نمط إنتاج إلى آخر أرقى منه، في أفق تحقق نمط الإنتاج الشيوعي الذي تغيب فيه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و الطبقات الاجتماعية و بالتالي يغيب فيه كل شكل من أشكال الاستغلال والاستلاب. فالتاريخ كما يقول ماركس هو "تاريخ صراع الطبقات"، إلا أن حدوث الثورات الاجتماعية التي تمثل نقطة التحول النوعي في صيرورة التاريخ ومبدأ تقدمه، ليس أمرا حتميا حتى وإن توفرت شروطه في البنية الاقتصادية التحتية، إذ هو رهين بوجود طبقية اجتماعية ثورية منظمة وواعية بمهامها التاريخية، وهذا هو العائق، في العصر الحاضر، أمام حدوث ثورة عمالية اشتراكية تهدم فيها علاقات الإنتاج الرأسمالية ليتأسس مجتمع اشتراكي.
فالتاريخ البشري إذن، محكوم بحركة تقدم ضرورية(بالمعنى النسبي للضرورة) هي في حقيقتها تتال لأنماط إنتاج تفهم باعتبارها مراحل تقود إلى بعضها البعض وفق قوانين الجدل (النفي ونفي النفي وتحول التراكم الكمي إلى تغير نوعي...)التي تحكم الطبيعة والمجتمع والإنسان.
لكن إذا كان التاريخ قد اتخذ شكلا تقدميا في البنية الغربية هل ينطبق ذلك على جميع البني الأخرى؟
يرى كلود ليفي شتراوس أنه إذا أردنا أن نفهم الظواهر الاجتماعية سواء الخاصة بالشعوب المسماة "بالبدائية" أو الغربية "المتحضرة"، علينا أن نطرح المنهج التاريخاني جانبا، والاستعاضة عنه بالمنهج البنيوي، أو ما يسمى بالدراسة الاستاتيكية أو السانكرونية، وهي التي تهتم بدراسة بنية اجتماعية أو ثقافية معينة دون إيلاء اهتمام لماضيها وتاريخها.
وانطلاقا من ذلك يرى ليفي شتراوس أن هناك عنصرا مشتركا وثابتا بين جميع الثقافات، ألا وهو " اللاشعور البنيوي " باعتباره عنصرا لا زمانيا ولا شخصيا ولا اجتماعيا، بل هو عام وأولي سابق على مختلف العوامل الأخرى. والتاريخ ما هو إلا تجل لهذا اللاشعور البنيوي في أشكال ومظاهر متنوعة، كما أنه خفي وغير معطى مباشرة في الأنظمة الاجتماعية والثقافية. وبذلك سوف يعتبر البنيويون النزعة التاريخية وفكرة التقدم بمثابة عائق ابستمولوجي مادام أنه لكل بنية استقلالها الخاص عن بقية البنى. فلذلك لا يمكن لجميع البنى أن يحكمها نفس المسار التاريخي. كما أننا إذا ما قبلنا جدلا بفكرة معينة عن التقدم، فلن يكون هذا الأخير في شكل خط متصاعد متصل الحلقات ذو اتجاه وحيد(مثل شخص يصعد السلم)، وإنما هو يجري عبر قفزات وتحولات فجائية ومتقطعة وذات اتجاهات مختلفة(مثل لعبة النرد).
لذلك ذهب البعض إلى القول بأن البنيوية سجلت نهاية التاريخ. إلا أن جان بياجي قد اعتبر أن تصور البنيوية للثقافة قد انتهى إلى موقف أفلاطوني في تصوره للمثل والجواهر الثابتة الخالدة والمفصولة عن المحسوس والواقع الذي ما هو إلا شبح وظل لعالم المثل. كما قال عنها لوسيان غولدمان بأنها" عندما تفصل "البنية" عن "الوظيفة" تلغي الحركة التاريخية، بل تجعل من التاريخ فعلا مجردا خارجا عنا وغريبا عن الحياة الواقعية للناس".
- الإشكال الثاني: دور الإنسان في التاريخ.
I. الصياغة الإشكالية:
إذا كان قوام التاريخ أحداث ووقائع تقف وراءها اختيارات وقرارات إنسانية. فهل يعني هذا أن الإنسان صانع لتاريخه، أم أنه مجرد نتيجة لضرورته؟
II. التصورات الفلسفية:
تختلف الإجابة عن هذا التساؤل باختلاف التصورات لطبيعة الصيرورة التاريخية وللمنطق الذي يحكمها. فقد رأينا في فلسفة التاريخ الهيجلية أن التاريخ هو صيرورة وعي العقل الكلي بذاته من خلال تجسده العيني التدريجي في العالم، ومن ثمة فالشعوب وحتى الرجال العظام وإنجازاتهم وأهوائهم مجرد أدوات في يد العقل الكوني( يقول هيجل: "نابليون هو روح العصر يمتطي صهوة جواد")، يحقق من خلالها غايته، وهذا ما سماه هيجل ب"مكر العقل أو مكر التاريخ"، الذي يحقق أهدافه من وراء ظهور الناس. فالناس إذن ، حسب هيجل لا يصنعون تاريخهم وإنما هو من يصنعهم.
هذا النفي لفاعلية الإنسان في التاريخ هو ما ستستعيده النزعة البنيوية في سياق ثقافي معاصر مختلف عن سياق الفلسفة الهيجلية، بل هي تتفوق على هيجل بنفي الصيرورة التاريخية نفسها. إذ تعتقد أن كل بنية اجتماعية أو ثقافية أو لغوية ...هي مكتفية بذاتها، انطلاقا من تكامل وتفاعل عناصرها الداخلية الثابتة، وتقوم بعملها رغما عن الإنسان ودون وعي منه.
على العكس من ذلك ، تصورت الماركسية أن الإنسان صانع لتاريخه، لكن أولا ليس بشكل فردي بل إن الفاعل التاريخي هو الطبقة الاجتماعية، وثانيا ليس بشكل اعتباطي وبحرية مطلقة، إذ يقول ماركس:" إن الناس هم الذين يصنعون تاريخهم، ولكن على قاعدة شروط اقتصادية محددة". وهي الفكرة التي سيستعيدها جون بول سارتر ويعمقها، إذ بقدر ما يعطي الأهمية للشروط الموضوعية المحيطة بالوجود البشري، بقدر ما يعتبر أن هذه الشروط تفتح أمام الإنسان حقلا من الممكنات المعطاة، يمكن أن يحقق إحداها من خلال اختياره الحر والتزامه بهذا الاختيار، فالإنسان حسب فلسفة سارتر الوجودية "مشروع في سماء الممكنات"، يمكنه أن يتجاوز وضعه الحاضر باستمرار، لكن في حدود الإمكانات التي تفتحها أمامه شروط هذا الوضع. وبذلك تكون كل من الماركسية والوجودية نزعتان إنسانيتان مقاومتان للتصورات البنيوية والوظيفية وحتى التاريخية الحتمانية التي تحاول أن تنكر فعالية الإرادة الإنسانية وتجعل من عمل البنيات ومكر التاريخ قدرا مغلقا لا يمكن تجاوزه.
* خاتمة.
إذا كان مدى علمية المعرفة التاريخية والشروط المنهجية لإمكان قيام هذه المعرفة موضع خلاف بين مختلف المقاربات الإبستيمولوجية، فإن الكل يتفق على أن المعرفة بالماضي لا يمكن أن تكون إلا معرفة جزئية ونسبية واعية بنسبيتها ومتحررة من أوهام الحقيقة المطلقة، إذ يستحيل أن يستعاد الماضي كما هو.
كما أن التساؤل عن مدى فاعلية الإنسان في التاريخ، ليس من قبيل الترف الفكري الخالص، وإنما هو تساؤل ذو راهنية ملحة، خاصة في ظل سيادة الخطابات الأيديولوجية الليبرالية الجديدة القائلة بسيطرة قوانين السوق ونهاية التاريخ، وفي ظل مصادرة حقوق الأفراد والشعوب في اتخاذ القرارات المتعلقة بمصيرها، من طرف الهيئات المالية و المؤسسات التجارية الدولية.

ليست هناك تعليقات: