الاثنين، يناير 04، 2010

الوحدة الثانية : مفهوم الغير

- تقديم:

لم يوجد الإنسان ليعيش وحيدا، هذا ما ندركه بداهة حين نتأمل في أعمق الميولات الوجدانية وأكثرها حميمية ، فمشاعر الحب والكراهية، والتعاطف والفخر، والرضا والاطمئنان، والخوف والدهشة، لن تكون لها دلالة ولا قيمة إلا إذا وجد إلى جانب الأنا آخرون يمكن أن توجه إليهم أو تمنع عنهم ويمكن أن يقرؤوها على محيانا فيشهدون عليها ويؤكدونها ، أو يتجاهلونها فينفونها.

فالذات إذن، لا توجد إلا مع الغير، لكن هذا الغير بقدر ما يشبهنا ويسلك وفق توقعاتنا وانتظاراتنا، فنحس اتجاهه بالألفة والقرابة، بقدر ما يختلف عنا ويخذلنا، فيكون مصدرا للقلق ومثارا للغموض والتشكك بل والعذاب أحيانا.

فوجود الغير إذن وجود تناقضي وإشكالي، وهذا ما تجمله عبارة سارتر "الغير هو الأنا الذي ليس أنا". فكيف تتحدد مختلف أوجه هذا البعد العلائقي للوجود البشري؟

الإشكال الأول: وجود الغير

I- البناء الإشكالي:

إذا كان وعي الذات يشكل مقوما من مقوات الشخص، فهل يتم هذا الوعي اعتمادا على تأمل الشخص في ذاته، أم أنه متوقف على وساطة الغير؟ وبعبارة أخرى ما هي القيمة الوجودية للغير بالنيبة لوعي الشخص بذاته؟ أوجوده ضروري ليتم هذا الوعي، أم أنه ممكن؟

II- التصورات الفلسفية:

إذا كانت الفلسفة الحديثة، وعلى الأخص في شقها العقلاني، قد سيجت الأنا بنزعة ذاتية لا تعير أية أهمية لدور الغير في وعي الذات بوجودها، إذ يتم هذا الوعي، حسب ديكارت، بواسطة الحدس العقلي المباشر لهذا الوجود. فما أن تفكر الذات حتى تدرك بداهة أنها موجودة وأن التفكير هو الصفة التي لا تنفصل عنها. ومن هنا يكون وعي الشخص بحقيقة وجوده متوقفا على التأمل الداخلي دون حاجة إلى وساطة أي كيان خارجي مثل "الغير" .’ فإن الفلسفة المعاصرة، وعلى الأخص الاتجاه الوجودي، قد جعلت من الغير وسيطا ضروريا بين الأنا ووعيها بذاتها، فهو المرآة التي تعكس حقيقتها وتمكنها من إصدار الأحكام على نفسها، كما استخلص جون-بول سارتر ذلك من خلال تأمله في تجربة الخجل. بل إن الفلسفة المعاصرة قد تجاوزت ذلك الطابع الاحتمالي الذي كانت تضفيه النزعة الذاتية على وجود الغير، فأضفت عليه طابعا ضروريا، إذ لا توجد الذات، حسب الفلسفة الفينومنولوجية ( إدموند هوسرل، موريس ميرلوبونتي) إلا ك"وجود- في- العالم" و "وجود – مع – الآخرين".

الإشكال الثاني: معرفة الغير

I- البناء الإشكالي:

إذا كان الغير موجودا ككيان خارجي عن ذاتي وباستقلال عنها، فكيف سيكون بإمكاني معرفته وإدراك حقيقته؟ هل يمكن معرفته داخليا كذات مماثلة لذاتي من حيث خواصها الفكرية وعمقها النفسي، أم أن معرفتي به لا تتأتى إلا على نحو خارجي موضوعي، على الشكل الذي تدرك به الأشياء؟

II- التصورات الفلسفية:

انطلق نيكولا مالبرانش(1638-1715) من النزعة "الأنا- وحدية" الديكارتية، لينكر إمكانية معرفة نفوس الآخرين كما هي في ذاتها، في حقيقتها الجوانية، إذ أن مجرد محاولة بلوغ مثل هذه المعرفة لا يمكن إلا أن تسقطنا في الخطأ، بحيث أننا سنسقط إذاك حالاتنا الانفعالية الخاصة على الآخرين، في حين أنهم مختلفون عنا لا محالة على هذا المستوى. ومن ثمة لا يمكن إلا أن نطلق فرضيات وتخمينات تقريبية. بينما يعترف، انسجاما مع نزعته العقلانية، بإمكانية معرفة الآخرين على أساس تماثل الحقائق العقلية المنطقية والأخلاقية بين جميع العقول باعتبارها بداهات كونية. وفي مقابل هذا التصور العقلاني الكلاسيكي، يعترض الفيلسوف الفينومنولوجي المعاصر "موريس ميرلوبونتي" على التصورات التي تختزل إمكانية معرفة الغير في نمط المعرفة الموضوعية الخارجية، التي تنظر إلة الغير كشيء خاضع للملاحظة، وتلغي عمقه الذاتي الإنساني. إذ أن ميرلوبونتي لا يكتفي بالاعتراف بإمكانية معرفة الغير وفهمه فقط من خلال التواصل، بل يذهب أبعد من ذلك إلى إمكانية تفهمه والتعاطف معه ومشاركته وجدانيا.

الإشكال الثالث: العلاقة مع الغير

I- البناء الإشكالي:

بما أن الغير كيان مختلف عن ذاتي، له هويته المتميزة عن هويتي، مهما كانت قواسمنا المشتركة، فما طبيعة العلاقة التي يمكن أن يؤسسها هذا الاختلاف؟ أهي علاقة صداقة وقرابة وتعايش وتفهم متبادل، أم هي علاقة غرابة وصراع وإقصاء متبادل؟ وما السبيل لأن تكون هذه العلاقة علاقة تعايش وتكامل؟

II- التصورات الفلسفية:

انطلق "ألكسندر كوجيف" من المرجعية الجدلية الهيجلية، التي ترى في تناقض الأضداد ووحدتها القانون الأساسي الذي يحكم حركة الفكر و الواقع معا، ليستقرئ صيرورة تاريخ الوجود البشري، ويخلص إلى أن هذا الوجود لا يمكن أن يتحقق إلا كواقع اجتماعي غير متكافئ بين وضعية السيادة ووضعية العبودية، هذه العلاقة التي تشكل ثابتا بنيويا خلال صيرورة التاريخ العام للبشري. فالصراع إذن هو ماهية العلاقة الممكنة بين الذات والآخر، سواء على المستوى الفردي أو الحضاري، لأن الذات لكي تحقق وجودها، كوجود واع، لا بد أن تدخل في صراع مع الآخر لكي تنتزع اعترافه بها. أما بالنسبة لميرلوبونتي فالغير لا يكون نقيضا بالنسبة للذات، ولا تكون العلاقة بينهما علاقة تشييء ونفي وإقصاء متبادل، إلا حين يكفان عن التواصل فيما بينهما، لأن اللغة بجميع أشكالها هي المنفذ الذي يسمح لكل منهما أن يلج العالم المغلق للآخر، وبالتالي أن يؤسس لعلاقة تعايش بينهما.

ساهمت الفيلسوفة الفرنسية(من أصل بلغاري) جليا كريستيفا في بلورة جواب عميق عن هذا الإشكال، إذ قامت بتعديته من مستوى العلاقة الفردية بين الذات والغير إلى العلاقات الجماعي (بين الثقافات والديانات والمجتمعات والأعراق...)، فاعترضت على التمثل الشائع الذي يعتبر الغير الخارجي (خارج الذات) هو الغريب والدخيل الذي يتربص بالجماعة ويلحق بها الشرور ويهدد سلامها الداخلي، لذلك يستحق أن يكون محل حقد، بل يستحق الموت. لتثير الانتباه إلى أنه لا ينبغي اختزال الغريب في ذلك الكيان الدخيل والأجنبي على ذات الجماعة، وكأن هذه الأخيرة وحدة متجانسة، بل إن الغريب يسكن صميم هذه الذات وهو جزء من هويتها، لدرجة يمكن القول أن هذه الهوية مستحيلة أو على الأقل ذات طابع إشكالي.لأننا إذا ما تعرفنا على الغريب فينا، أي إذا ما وعينا بالتناقضات والتمايزات التي تسكن صميم الذات، فإننا نوفر على أنفسنا ذلك الموقف العدواني الموجه صوب الغير الخارجي بصفة عامة.فالاعتقاد بأن الذات، سواء الفردية أو الجماعية، وحدة متجانسة وهوية مطلقة، وهم يغذي مواقف الحقد والعدوانية والإقصاء تجاه الغير. ومن ثمة فالتحرر من هذا الوهم هو شرط استتباب علاقات التعايش والتسامح بين الأغيار.

استنتاج عام

تجد معاداة الغير جذورها في مجموعة من الأحكام المسبقة، التي تفتقر إلى الأساس الواقعي والعلمي، إذ يمكن ردها إلى شروط نفسية مثل اليأس والإحباط الذي يمكن أن تعيشه الذات، فيجعلها تنشد العزاء في دفء هوية نقية متوهمة وإسقاط عجزها ومساوئها على الغير، أو ردها إلى شروط سياسية مثل الدعاوة العنصرية أو الدينية المتشددة التي يمكن لبعض المكونات السياسية أن تعتمدها لتعبئة الجماهير، أو يمكن ردها ببساطة إلى الجهل بحقيقة الغير وانعدام التواصل معه. وهذا ما اتفقت فيه الفيلسوفة واللسانية جليا كريستيفا والفيلسوف ميرلوبونتي، بل حتى زميله سارتر الذي يبدو موقفه الفلسفي نقيضا لهما، فمبادئه وممارسته السياسية تدل على تبنيه موقف التعايش والتعاطف مع الغير.

ليست هناك تعليقات: