- مدخل عام.
إذا ما انطلقنا من التعريف الفلسفي المعاصر لمفهوم "الوضع البشري"، وهو"مجموع الشروط الملموسة التي تحيط بالوجود البشري" Armand Colin V Ph، فإن التساؤلات التي ستنبثق من هذا التعريف، ستتجاوز محاولة استكناه الماهية المجردة للكائن البشري، إلى محاولة البحث في محددات الوجود الإنساني العيني في صيرورته الحية، حيث تتقاطع مجموعة من الشروط: منها الذاتية التي تؤطر علاقة الإنسان بذاته، والتي يكثفها مفهوم الشخص. ومنها الشروط البين-ذاتية أو العلائقية التي تؤطر علاقة الإنسان كشخص بكيان خارجي عنه ; ومتعايش معه، هو الغير. ثم الشروط الزمنية التي يكثفها مفهوم التاريخ الذي يدل على ذلك الوعاء الموضوعي الذي يمارس فيه الإنسان أفعاله وينجز فيه آثاره الفكرية والمادية.
الوحدة الأولى: مفهوم الشخص
شكل مفهوم الشخص، وعلى الخصوص انطلاقا من الفلسفة الحديثة، الأداة النظرية الأساسية للتأمل في الشرط الإنساني. بحيث يكثف هذا المفهوم نظرة الفلاسفة إلى الفرد البشري كذات، أي ككيان عاقل ، يتمتع بالاستقلال الذاتي ويحمل مجموعة من الصفات الماهوية، مثل الوعي والحرية والمسؤولية الأخلاقية التي تجعل منه كائنا متميزا ذو قيمة عليا.
فما هي، على وجه التحديد، مقومات وجود الشخص؟ وهل تؤهله هذه المقومات ليكون حاملا لقيمة مطلقة وصانعا لذاته بحرية؟
الإشكال الأول: الهوية الشخصية
I. البناء الإشكالي:
رغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالات النفسية والسلوكية التي تعرض للشخص طيلة حياته، بل وفي كل لحظة من الزمان، فإن كل واحد منا يشير باستمرار إلى نفسه بضمير المتكلم "أنا"، لأنه يدرك ذاته بوصفه وحدة وهوية مستمرة في الزمان، أي بوصفه ذاتا مطابقة لنفسها على الدوام، إذ يظل حاضرها متصلا بشكل وثيق بماضيها، كما تظل متميزة عن الآخرين.
يسمى هذا الشعور بالهوية الشخصية وعيا بالذات.
- فكيف يتم هذا الوعي؟ هل يتعلق الأمر بحدس بديهي مباشر لمعطى قبلي فطري؟ أم هو مكتسب بعدي متوقف على معطيات التجربة النفسية والحسية؟
- وهل وراء فعل الوعي هذا، جوهر قائم بذاته يشكل قوام الهوية الشخصية، ويتمتع بوجود واقعي مستقل وسابق منطقيا أو زمنيا على الوعي به (على النحو الذي نتحدث به عن واقعية الجسد والروح في التمثل العادي) أم أن الهوية الشخصية هي مجرد شعور نفسي بالوحدة والاستمرار ينبثق من فعل الوعي ذاته؟ هل الهوية الشخصية ثابتة أم متغيرة؟ وهل يشكل الجسد جزءا من قوام الهوية الشخصية؟
- ما علاقة الذاكرة بوعي الذات؟ وما دورها في تشكل وتثبيت الشعور بالهوية الشخصية؟
II. التصورات الفلسفية:
إذا كان التصور الإنسي الذي ميز الفلسفة الحديثة، قد جعلها تتصور الشخص البشري ذاتا مستقلة وواعية بنفسها، فإن طبيعة هوية هذه الذات، وكيفية وعي هذه الهوية قد طرحت إشكالات فلسفية اختلفت بصددها الأجوبة، حسب منطلقات كل نسق فلسفي، وحسب النسق الفكري السائد في كل مرحلة تاريخية.
فإذا كان الاتجاه العقلاني، وخاصة مع رائده ديكارت(ق17)، قد تصور أن هوية الشخص هي خاصية لجوهر روحي قائم الذات، يتمتع بوجود قبلي وثابت، يتم وعي وجوده بالبداهة العقلية. فإن الاتجاه التجريبي مع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك(ق17) ، على العكس من ذلك، قد تصور الهوية الشخصية باعتبارها تلك الوحدة النفسية التي يشعر بها الشخص نتيجة لمصاحبة وعيه لمختلف أفعال الذات النفسية والحسية، عبر مختلف الأزمنة والأمكنة ، كما أن ثباتها نسبي بنسبية التجربة النفسية والحسية ذاتها. وقد ركز جون لوك على دور الذاكرة في ربط ماضي الشخص بحاضره، كشرط لشعوره بهويته الشخصية، أي بتطابق الشخص مع ذاته في مختلف لحظات الزمان المتغير. مع أن مواطن جون لوك، الفيلسوف الإنجليزي دفيد هيوم دفع بالمنطلقات التجريبية إلى نهاياتها المنطقية بحيث اعتبر أن ما نسميه "أنا"، ليس سوى مجموعة من الإدراكات النفسية(الحب، الكراهية، الألم، اللذة...)، والحسية ( النور، الظلام، الحار، البارد...) المتتالية في الزمان والمتدفقة بسرعة فائقة، حتى أن المخيلة تسقط في "وهم" تصور وجود ذات جوهرية ذات هوية تامة.
إلا أن الفكر الفلسفي المعاصر قد اتجه نحو تطوير التصور التجريبي، على النحو الذي فعل "جول لاشوليي" الذي حدد أساس الوعي بالهوية الشخصية، من جهة أولى في دوام نفس المزاج أو الطبع، أي نفس السمة العامة التي تطبع ردود فعل الشخص تجاه مختلف المؤثرات. ويتمثل من جهة ثانية في ترابط الذكريات، إذ تشكل هذه الأخيرة سلسلة مترابطة الأطراف، تربط خبرات الشخص الماضية بحاضره، أي أن الشعور بالهوية ما هو إلا تمثل ذهني دينامي للذات، ينبني على صيرورات ذهنية ونفسية وعضوية، وبذلك قطع الطريق على أي تصور ميتافيزيقي جوهري للشخص البشري.
كما أن معظم الاتجاهات الفلسفية والمدارس الفكرية والعلمية المعاصرة (الفلسفة الوجودية، التحليلي النفسي، علم الاجتماع...) قد تجاوزت النظرة الماهوية للإنسان، وركزت بالمقابل على الأبعاد الاجتماعية والتاريخية للوجود البشري. فأصبحت تقارب هوية الشخص انطلاقا من استحضار الشروط الملموسة المحيطة بوجوده.
الإشكال الثاني: الشخص بوصفه قيمة
I. البناء الإشكالي:
إذا كانت جل التصورات الفلسفية قد حددت الشخص، كذات مفكرة وواعية، تتميز بهويتها الشخصية التي تميزها عن الغير وتعطيها وحدتها واستمرارها في الزمان والمكان، بغض النظر عن الاختلاف القائم بين الفلاسفة حول ما إذا كان القوام الحامل لهذه الهوية عبارة عن ذات جوهرية الوجود، أم هي مجرد وحدة نفسية ناتجة عن فعل الوعي المصاحب للأفعال الفكرية والإدراكية للشخص وامتداد هذا الوعي في الزمان بواسطة الذاكرة. فإن التساؤلات التي تطرح نفسها الآن تتعلق بالنتائج العملية والقيمية التي يمكن أن تترتب عن تحديد الشخص على هذا النحو:
- فما الذي يؤسس البعد القيمي الأخلاقي للشخص؟ وما الذي يبرر فلسفيا استحقاق الإنسان للإحترام والكرامة بشكل مطلق؟
- وما هو المعيار الذي يجب على أساسه تقييم الشخص؟ هل الشخص غاية في ذاته، بغض النظر عن أية منفعة يمكن أن ترجى منه، أم هو مجرد وسيلة لتحقيق غايات خارجية عن ذاته؟ وبعبارة مجملة، هل قيمة الشخص مطلقة أم نسبية؟ ووفق أي معيار تتحدد هذه القيمة؟
II. التصورات الفلسفية:
إذا كانت جل التصورات الفلسفية الحديثة تتفق على إسناد قيمة عليا للكائن البشري، فإنها قد اختلفت في المسوغات التي تعلل هاته القيمة.
فقد صاغ كانط نظريته الأخلاقية التي تبني قيمة الكائنات البشرية على أساس امتلاكها للعقل الأخلاقي الكوني، مما يجعل منها ذواتا ممتلكة للكرامة ، وحائزة على قيمة عليا مطلقة ومنزهة عن كل حساب نفعي، إذ أن كل شخص هو غاية في ذاته لأنه يحمل بشكل قبلي صورة الإنسانية جمعاء في ذاته، ولأن إرادته الحرة هي المبدأ المحرك لأفعاله مستجيبة، في ذلك، لتعليمات الواجب الكوني المطلق وكأنها هي من شرع هذه التعليمات.
إلا أن الفيلسوف الأمريكي المعاصر "طوم ريغان" قد بلور تصورا أكثر جذرية. فهو إذ يعلن انتماءه للتقليد الفلسفي الكانطي، يلقي الضوء في نفس الآن على حدود المعيار الذي قدمه كانط للقيمة المطلقة للشخص، لأنه يقصي ضمنيا مجموعة من الكائنات البشرية التي لا يتوفر فيها شرط العقل(الأطفال، المتخلفون عقليا، الكوما...). مقترحا معيارا جديدا يمكن تلخيصه في العبارة التالية: الكائنات المستشعرة لحياة sujet-de-vie يعنيها أمرها بغض النظر عما إذا كان يعني شخصا آخر.
مقابل هذين التصورين المثاليين، يبنى الفيلسوف الأمريكي جون راولز تصورا أكثر واقعية، بإدخاله للبعد الاجتماعي والسياسي في معالجة إشكال قيمة الشخص، إذ أن هذه القيمة في نظره ليست معطى قبليا. وإنما هي مكتسب عملي مستند إلى الكفاءات الفكرية و الاخلاقية الفعلية، المرتبطة بالالتزام الاجتماعي والسياسي للشخص كمواطن يشارك بفعالية في تقرير وتسيير الشأن المجتمعي وفق المصلحة العامة.
تبقى هذه التصورات معبر عما ينبغي أن يكون، لا عما هو كائن فعليا في المجتمعات المعاصرة القائمة على اقتصاد السوق الذي تحركه معايير الربح والمردودية وتحكمه القيم السلعية، بحيث أن كل شيء، بما فيه الأشخاص، خاضع للتقويم السلعي. إلا أن هذا لا يقلل من قيمة تلك التصورات بقدر ما يؤكد على الحاجة إلى تبنيها نظريا والنضال من أجل تحقيقها عمليا.
الاشكال الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية:
I. البناء الإشكالي:
في المحورين السابقين تمت مقاربة مفهوم الشخص من زاوية الصفات الذاتية الماهوية، التي تميزه بشكل مجرد عن أي تعيين واقعي، حتى أنه يبدو كيانا مكتملا وذاتا حرة صانعة لأفعالها. غير أن الفرد البشري في الواقع بنية نفسية- فيزيولوجية ذات ارتباطات سوسيو- ثقافية، وبذلك فهو محاط من كل جانب بالعديد من أنواع الإشراطات التي تحدد وجوده.
فهل الشخص حر في بناء شخصيته وصنع أفعاله بشكل مطلق، أم أنه خاضع لإشراطات عوامل موضوعية خارجة عن إرادته وتحدد وجوده على نحو حتمي؟
II. التصورات الفلسفية:
1- مقاربة العلوم الإنسانية
لقد كشفت العلوم الانسانية، بمختلف حقولها المعرفية، عن الشخص كنتاج لتركيبة من الشروط الضرورية وللعديد من التأثيرات التي تمارسها مختلف البنيات الاجتماعية. فشخصية الفرد في علم النفس السلوكي مثلا، لا تعدو أن تكون محصلة لاستجابات ترسخت كردود فعل على مثيرات خارجية تعمل على تحفيز أو كبح نمط معين من السلوك. ونظرية التحليل النفسي تنظر إلى شخصية الفرد كمحصلة حتمية لخبرات مرحلة الطفولة الاولى، من خلال التأثير الذي تمارسه مكنونات اللاشعور، من رغبات مكبوتة وخبرات نفسية أليمة ومخاوف مرتبطة بمرحلة الطفولة المبكرة. أما في علم الاجتماع ، وإذا أخذنا نظرية "غي روشي" نموذجا، فإن شخصية الفرد تتشكل عبر عملية التنشئة الاجتماعية، التي من خلالها يتم استبطان معطيات المحيط الاجتماعي، وبذلك تنمط بنية الشخصية بنمط المجتمع الذي تعيش فيه على مستوى السلوك والتفكير والإحساس. أما علم الأنثربولوجيا مع رالف لنتون فيتصور شخصية الفرد كنتيجة للفعل الدائم الذي تمارسه المنظومات القيمية السائدة في النسق الثقافي للمجتمع. من كل هذا نستنتج أن الشخصية نموذج نمطي جاهز يصنعه المجتمع ويتأطر ضمنه الفرد بشكل موضوعي ومستقل عن إرادته. وهذا ما جعل دوركايم يقول:"كلما تكلم الفرد أو أصدر حكما، فإن المجتمع هو الذي يتكلم ويحكم من خلاله"
2- المقاربة الفلسفية:
إذا كان وجود الشخص خاضعا لشروط موضوعية تحدد شخصيته وتؤطر سلوكه، إلا أنه مع ذلك كائن ممتلك للعقل والإرادة، مما يجعله قادرا على الوعي بهذه الشروط وبالتأثير الذي تمارسه عليه، الشيء الذي يتيح له إمكانية التكيف الإيجابي و الفعال معها، بل وإمكانية تغييرها وفق اختياراته وتصوراته الخاصة للمستقبل. هذا بالضبط ما تحاول العديد من المذاهب الفلسفية تأكيده، شأن الفلسفة الوجودية التي تنطلق من مقولة "وجود الإنسان يسبق ماهيته" (جون بول سارتر) ، أي أن الإنسان يوجد أولا غير حامل لأية سمة قبلية مكتملة، فيصنع من نفسه ما يشاء، انطلاقا من اختياره المطلق. كما أن فعل صنع الذات هذا هو عبارة عن صيرورة دائمة ، فالشخص متجاوز لوضعه الحاضر باستمرار، وهذا ما تكثفه عبارة سارتر " الإنسان مشروع في سماء الممكنات" ويستتبع مفهوم الحرية في الفلسفة الوجودية مفهومي الإلتزام المسؤولية الذاتية لا اتجاه النفس وحدها بل اتجاه الانسانية جمعاء. و قد ذهبت الفلسفة الشخصانية في نفس الاتجاه، إذ اعتبر إمنويل مونييه أن الشخصية هي صيرورة إبداع ذاتي مستمر من طرف الشخص، بشكل متحرر من استعباد الإشراطات الموضوعية، وهي الصيرورة التي يلخصها مفهوم "التشخصن" أو الشخصنة.
هناك تعليق واحد:
bien
إرسال تعليق