ليست هذه المقالة تسلية إنشائية، ولا هي ترف فكري من طرف شخص يقتعد كرسيا وثيرا وسط غرفة دافئة ويعطي النصائح البلهاء لشعوب تخوض غمار ثورتها الميدانية، وإنما هي مساهمة تحليلية من مواطن ينتمي إلى شعب يتوق أيضا إلى صناعة غد تسوده الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، شعب هو الآن بصدد تعلم الدروس من الثورتين التونسية والمصرية. أكتب هذه المقالة لأني أحلم مثل أبناء شعبي بتونس ثانية وثالثة ورابعة... فبقدر ما يصنع الشعبان التونسي والمصري مصيرهما المشرق، بقدر ما يتحملان مسؤولية تاريخية جسيمة، مسؤولية النموذج، إذ أن نجاح ثورتيهما أو فشلهما ستكون له حتما نتائج حاسمة إما في حفز صيرورة ثورية في صفوف كافة شعوب المنطقة أو إحباط هذه الصيرورة التي تعتمل بشكل كامن.
سأنطلق من جرد العناصر النوعية غير المسبوقة التي ساهمت في إنضاج الوضع الثوري في تونس ومصر، وفي السير به صوب سقف التغيير الجذري للأنظمة القائمة، كما سأتطرق للعناصر السلبية التي من شأنها أن تشكل كابحا لهذه الصيرورة:
- أول هذه العناصر هو الميكانيزم الجديد الذي أصبح دياليكتيك وعي الجماهير يتطور من خلاله، إذ توسل هذا الدياليكتيك بحامل جديد من طبيعة تكنولوجية، تمثل في الأنترنيت، التي هي قناة للتواصل منفلتة إلى درجة كبيرة من رقابة الأجهزة البوليسية ومن وصاية قيادات الأحزاب السياسية و بيروقراطيات المنظمات النقابية التقليدية اللاجمة لأية دينامية جماهيرية جذرية. كما أنها أكثر القنوات سرعة واتساعا وسهولة وقوة حجاجية إقناعية (الصورة، الفيديو...) وأقل كلفة مادية. فكلتا الثورتين كان حافزها الأولي تنسيقات شبابية تمت على مستوى الفضاء الافتراضي للفيسبوك والتويتر، خارج أي بنية تنظيمية قائمة في الواقع. ولا نقصد هنا إنكار الشروط الموضوعية الناضجة التي جعلت هذه الدينامية ممكنة، والمتمثلة في الافلاس المزدوج لنظام الحكم(سياسيا واجتماعيا واقتصاديا) ولأدوات مشروعيته التابعة من أحزاب ونقابات وإعلام.
- تمثلت القاعدة الإجتماعية للثورة، بشكل أساسي، في الشباب المتعلم والفئات الاجتماعية الوسطى المبلترة، بل التي تعاني بشكل أساسي من وجود اجتماعي تنعدم فيه الكرامة الإنسانية والحريات الخاصة والعامة. أما الطبقة العاملة فإنها بالإضافة إلى استيلابها الاقتصادي والاجتماعي، فإن النسبة الضئيلة المنظمة نقابيا خاضعة بشكل مطلق لوصاية غير قابلة للاختراق من قبل البيروقراطية النقابية، ومع ذلك فقد التحقت فئات منها بالسيرورة الميدانية للثورة، ولكن ليس بشكل نوعي.
- انطلاق شرارة الثورة من مناطق هامشية(سيدي بوزيد، السويس) وليس من المراكز الحضرية الكبري التي تعرف تركزات عمالية كبرى.
- تتمتع الثورتان التونسية والمصرية بمشروعية أخلاقية، كونها انتفاضة سلمية، جماهيرية ، مغطاة إعلاميا وبشكل مباشر، كسبت التعاطف الجماهيري العالمي، وأحرجت الدول الامبريالية الحليفة للأنظمة القائمة، والتي تحمل يافطة القيم الديمقراطية.
- عدم حصول حرب أهلية طويلة الأمد، يمكن أن تؤدي إلى تصفية المناضلين المتقدمين في الوعي، والذين يشكلون احتياطي كوادر النظام الثوري الجديد والمحصنين لقيم الثورة، رغم تشكيل أتباع الأنظمة البائدة لعصابات إجرامية مضادة للثورة، تحاول القيام بمهمة التصفية هذه، لكن نجاحها في كان نسبيا.
- بروز بوادر وضعية "ازدواجية السلطة"، المتمثلة في اللجان الشعبية في الأحياء وبعض المعامل، وهو مؤشر على الوعي الأولي للجماهير بإمكانية التنظيم الذاتي وأخذ زمام أمورها بيدها.
- مطالبة العمال والمستخدمين بمحاسبة وإقالة الرؤساء المديرين العامين وفضح كشوفات حساباتهم، وحماية مؤسساتهم من النهب، مؤشر على بداية الوعي بأن السلطة داخل مؤسسات الإنتاج هي لمن يعمل فيها.
- مصادرة وتأميم ثروات العائلة الحاكمة في تونس، وإحالة بعض أكباش الفداء من المغتنين من النظام القائم في مصر على أنظار القضاء تحت ضغط الجماهير، يمكن أن تشكل بداية لإرساء العدالة الاجتماعية.
- غياب حزب "بلشفي" قائد للثورة بشكل مباشر ومهيمن ، يمكن أن يؤدي إلى صيرورة تبقرط بعد نجاح الثورة، ولكن هناك وجه آخر وهو إمكانية تكالب قوى المعارضة على ماحققته الجماهير وسرقة ثورتها. فهي أحزاب انتهازية في ممارستها، وغير شعبية في قاعدتها المصلحية الطبقية، ولذلك فالأفق السياسي الذي يمكن أن تعطيه للثورة محدود. وهذا ما ظهر جليا من خلال قبول المعارضة التونسية بالشكل الانتقالي غير المتناسب مع الزخم الثوري، كما يظهر ذلك أيضا بوضوح من خلال المفاوضات المشبوهة التي تخوضها المعارضة المصرية مع النظام وتحويرها للبرنامج الثوري الجذري الذي يحمله الشباب الثائر، من خلال مراهنتها على عمر سليمان قائد المخابرات التي تعتبر عصب النظام القائم، وبعض موظفي الإمبريالية العالمية مثل البرادعي، ومن خلال التطمينات التي ترسلها هذه المعارضة للقوى الامبريالية والصهيونية، وكما يظهر ذلك ايضا من خلال تصريحات قيادات حزب الوفد الذي يعلن تخوفاته المضحكة من فراغ دستوري...كذا.
- كشف النظام المصري عن وجهه الهمجي من خلال التهديد المباشر الذي تضمنه خطاب مبارك(الاستقرار أو الفوضى) وتنفيذ هذا التهديد في اليوم الموالي(مجازر ميدان التحرير والسويس والاسكندرية...آلاف الجرحى ومئات القتلى)، مما يعمق عداء الجماهير له ويحصن جذوة الثورة من الخمود بفعل مناورات الاحتواء الأيديولوجي التي يقوم بها هذا النظام..
- ستدعم الإمبريالية عملاءها إلى آخر المطاف (مبارك، بقايا نظام بنعلي)، كما يبدو من خلال مواقفها الملتبسة والمتذبذبة. ولكن حتى عندما تقبل برحيل مبارك في مصر، فإنها لن تقبل إلا بالأجندة التي تناسبها بعد هذا الرحيل.
- الجيش عنصر جوهري في النظام ، وقياداته تشكل مكونا أساسيا من الطبقة الحاكمة ذات الامتيازات، بالإضافة إلى قرب هذه القيادات من الإدارة الأمريكية، رغم الاختلاف غير النوعي بين المؤسستين العسكريتين في كل من تونس ومصر. ورغم مشروعيتهما الشعبية، فإن حقيقتها بدأت تنكشف شيئا فشيئا، بالتناسب مع تجذر السيرورة الثورية للجماهير وصمودها( ترك الجيش لجماعات المجرمين التابعين للنظام الدخول إلى ميدان التحرير، واستمرار تقتيل أبناء الشعب التونسي الرافضين لمهزلة الحكومة الانتقالية...).
وبناء على كل هذه العناصر سواء المحفزة للصيرورة الثورية أو الكابحة لها، يمكن أن نخلص إلى الخلاصات التالية:
- ينبغي الحفاظ على روح التنظيم الذاتي للجماهير، وتوسيع مداها لتشكل نواة لنظام ديمقراطي جديد، أو على الأقل ثقل موازن، أو سلطة رقابة شعبية مضادة، تنبغي المطالبة بترسيمها دستوريا.(نموذج بورتو أليغري في البرازيل).
- ينبغي لقوى المجتمع المدني، واللجان الشعبية والمثقفون النقديون، والقوى السياسية الثورية ذات النزعات غير الهيمينية وغير العصبوية أن تناضل من أجل الحفاظ على المضمون الجذري للثورة(المطالبة برحيل رموز النظام القديم في تونس، و إقامة مجلس تأسيسي يبلور دستورا ديمقراطيا حقيقيا يطرح للاستفتاء الشعبي الحر، ويتضمن تغييرا لبنى النظام البائد سواء في تونس أو في مصر).
- ينبغي لمجموعات الشباب الثوري تعبئة رجال الأمن(استثمار مطالبتهم بتأسيس نقابة في تونس) والضباط الصغار والمتوسطين في الجيش من أجل دمقرطة هذه المؤسسات.
- حماية الثورة من العدوى الإسلاموية حتى لا يتكرر النموذج الإيراني، ورفع مطلب العلمانية بوضوح(تعميقها وتصحيحها في تونس، واستثمار التعدد الديني في مصر).
- المطالبة بإلغاء "الدين الكريه"، الذي ضخته الحسابات السرية والعلنية للأنظمة البائدة باسم شعوبها(ثروة آل مبارك تقدر ب 70 مليار دولار)، والذي يمكن أن يرهن التنمية المستقلة لاقتصاد النظام الثوري الوليد.
- بناء تنظيمات نقابية من القاعدة لأن المركزيات الموجودة متعفنة وغير جماهيرية ولا تشكل مكسبا تنظيميا.
- الدفع بسيرورة المصادرة والتأميم إلى أقصى حد ممكن، من أجل توفير القاعدة المادية لإعادة توزيع عادلة للثروات.
- التشبت بمحاكمة أقطاب النظام القديم والمطالبة باستعادة ثروات الشعب المنهوبة.
- إعادة النظر في الالتزامات المجحفة سواء مع القوى الامبريالية أو مع الكيان الصهيوني في حالة مصر.
- الالتفات، بعد نجاح الثورة، إلى تعزيز العلاقات الدولية جنوب-جنوب من أجل تكوين ثقل موازن للسيطرة الامبريالية.
وفي الأخير لا بد من التنويه بأن العامل الحاسم لنجاح الثورتين التونسية والمصرية، هو عدم تركهما منعزلتين، أي اشتعال أوضاع ثورية وحركات إصلاح الجذرية في المنطقة برمتها.
فلتشتعل تونس ثالثة ورابعة وخامسة.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق